هذه روح الأمة ومواقفها في ذلك الوقت، ولما كتب الله لهم النصر ما طغوا، ولا بغوا، ولا جحدوا نعمة الله عز وجل، ولا فسقوا، ولا فجروا، بل صورت لنا كتب التاريخ والمراسلات في ذلك الوقت ما صنع المسلمون، وبأي شيء فرحوا؟ ولم يفرحوا بالبلاد ولا بالأموال، وإنما فرحوا بنصرة دين الله، وتطهير مساجد المسلمين من أوضار المسيحية والتثليث.
فكتب القاضي الفاضل يهنئ صلاح الدين بحطين، ويقول له عن أهل مصر في مصر:
"والرؤوس إلى الآن لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها شكراً لله عز وجل".
ويقول هو عن نفسه أي صلاح الدين:
"وكلما فكر الخادم أن البِيَع (يعني الكنائس) تعود مساجد، والمكان الذي يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة، يقال فيه: أنه الإله الواحد" قال: إنه لا يوجد أعظم من هذا الفرح , ولا أجمل منه.
ولما كتب يبشر أخاه بالنصر قال له: "وعاد الإسلام بإسلام بيت المقدس إلى تقديسه، ووضع بنيان التقوى إلى تأسيسه، وزوال ناموس ناقوسه، زالت النصرانية، وبطل بنص النصر قياس قسيسه، ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد، وامتلأ ذلك الفناء بالأتقياء الأماجد، وطنت أوطانه بقراءة القرآن ورواية الحديث، وذكر الدروس وحديث هدي الهدى، وزارها شهر رمضان، مضيفاً لها نهارها بالتسبيح وليل فطرها بالتراويح " كانت هذه إذن الصورة.
واستدعى المهنئون تاريخ الأمة، وقال الخطيب القاضي زكي الدين في أول خطبة في المسجد الأقصى بعد فتحه وتحريره، قال مخاطباً صلاح الدين:
"جددتم للإسلام أيام القادسية، والملامح اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فاقدروا هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة " إذا رأينا كيف تحقق النصر عندما جاءت هذه الصورة بعد تهيئة أسبابها.
سقوط بغداد:
أكثر تأثيراً وأعمق في تجلية صورة الهزيمة والنصر، ما ذكر ابن كثير في حوادث شهر محرم من عام 656 هـ , والحقيقة أن نص ابن كثير يغني عن كل تعليق، وكل ما نذكره هنا من هذه الوقائع ينبغي أن نربطه بواقع الأمة، ولا يحتاج ذلك لا إلى تعليق ولا إلى تفصيل، بل إن الناظر يرى ذلك أمام عينيه، ويسمع أحداث ما يقع للمسلمين بإذنيه، فلا يكاد يخطئ شيئاً من ذلك أبداً، والتاريخ يعيد نفسه؛ لأن الأمر مرتبط بسنة الله - عز وجل - ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، يقول ابن كثير في وصفه هذه الوقعة:
"جاء التتار إلى بغداد، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل، يساعدونهم على البغاددة، ومعه ميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحه الله ".
الوقفة الرابعة: من أسباب السقوط:
السبب الأول: محالفة الأعداء ضد المسلمين:
وجود من ناصر أعداء الدين على إخوانه المسلمين، وهذه البلية التي ما يزال المسلمون مبتلون بها في هذا العصر، فبعضهم يحالف أعداء الله ضد إخوانه من المسلمين , ومن أولياء الله .. فمن ذلك ما حصل من صاحب الموصل، إذ قدم للصليبيين فروض الولاء والطاعة، كما قدم لهم المعونة والنصرة, وهذا أعظم بلاء وأعظم سبب من أسباب الهزيمة.
السبب الثاني: الانشغال بوسائل اللهو:
وهذه صورة خطيرة جداً , يقول ابن كثير: " وأحاطت التتار بدار الخلافة في وسط بغداد - يعني قد دخلوا إلى بغداد - يرشقونها بالنبال، من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه .. ، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك , وفزع فزعاً شديداً، قبل ذلك لم يكن يعلم من أمره شيئاً، .. ، فأمر الخليفة عند ذلك بالاحتراز، وكثرة الستائر عند دار الخلافة ".
وذلك بعد أن دخلوا البلد، ووصلوا إلى دار الخلافة، والخليفة في مجلسه، والجارية ترقص بين يديه، وما انتبه إلا بعد أن جاءها السهم وقُتِلت، ففزع فزعاً شديداً فأمر بالاحتياط والتحرز، وهذه تبين لنا هذا الداء من أعظم أسباب البلاء عند الأمة المسلمة.
وكما يقول القائل:
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً ... فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
¥