إلا أن غياب هذا العنصر – من الناحية العملية لا النظرية – عن بعض توجهات الدعوة، أو عن قطاعات أو جيوب في بعض التوجهات، أو عدم الوعي بثقافة التنفيذ لذلك العنصر لدى كثير من الأفراد داخل بعض التوجهات .. قد أدى إلى تحويل هذا العنصر – الذي هو عنصر مساعد لأهداف الخير والشر والحياد جميعا – إلى عنصر مدح. فصرنا نجد بعض الذين نشأوا في توجهات حالها هو التقصير في الجوانب التنفيذية، فقد انبهروا – ولو نسبيا – بدعوات أناس آخرين تميزوا بالفعالية والواقعية والعملية، وهو ليس تميزا في الحقيقة، وإنما هو برز كتميز لما قصرت التوجهات الأخرى في الجوانب العملية التي تؤدي إلى تحقيق أهدافها.
نقول: إنه لو اقتصر الانبهار أو المدح على مجرد التزام الفعالية والعملية والواقعية لكن الأمر أهون؛ حيث سيكون دورنا هو إفهام المنبهرين أن العملية والواقعية ليست محلا للتميّز، بل هي القناة بديهية الوجود التي تتحقق من خلال الأهداف المرسومة، فكيف يضع أحدهم أهدافا ثم يقعد يشاهدها ويتملاها؟!
إلا أن الانبهار لم يتوقف عند هذا الحد؛ بل تعداه إلى النتائج؛ حيث صحح المنبهرون - أو المصححون عموما - ما وصل إليه أصحاب الدعوات الجزئية من النتائج، فيقال مثلا: انظروا إلى هذا الداعية، قام بحملة لمكافحة الإدمان وقد حقق من النتائج ما لم يحققه الدعاة الآخرون من الذين لم يكونوا عمليين مثله، فلم ينزلوا للناس، ولم يستغلوا القنوات الفضائية، ولم يخططوا للحملات الواقعية .. إلخ، فلم يحققوا النتائج المطلوبة مثل ما حقق هذا الداعية.
هنا نقول: ومن قال إن هذه النتائج – في ميزان الدعوة الإسلامية – مطلوبة بذاتها؟
إن هذه النتائج التي حققها هذا الداعية، سواء كانت تقليل نسبة الإدمان، أو كانت تقليل نسبة البطالة، لو فرض تحقيقها بالفعل، هي - في ميزان الدعوة الإسلامية - نتائج لاغية إلا أن توضع في إطارها العقيدي التسليمي لرب الأرض والسماء. هذه هي الدعوة الإسلامية، وهذا ما عليه الداعية – الحق - إلى الإسلام.
أما لو قلنا إن الخير هو خير في ذاته، والشر هو شر في ذاته، ومن الخير عموما أن نزيد من الخير ونقلل من الشر، كحملات محاربة الإدمان والتدخين والبطالة .. إلخ، فهنا نقول: نعم ربما، ولكن قل إنك مصلح اجتماعي، قل إنك مصلح اقتصادي، فهذا لك واختياره متروك لك، أما أن تقول إنني داعية إسلامي، فهنا ينبغي أن تنطبق عليك طبيعة الدعوة الإسلامية، لا أية دعوة إصلاحية أخرى؛ إنها دعوة – أولا – إلى القاعدة العقيدية التي تقوم عليها الإصلاحات الجزئية من بعد كلها.
وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاما ما نقل إلينا من حديث صحيح أو ضعيف أو موضوع أنه أمر بمعروف جزئي أو نهى عن منكر جزئي، من المنكرات التي كانت تعج بها مكة طيلة هذه الحقبة التاريخية للدعوة؛ كان صلى الله عليه وسلم – كأي نبي – يقول لقومه قولوا لا إله إلا الله. كان يمر على البغايا الواضعات رايات حمر على بيوتهن علامة عليهم، وكان يعيش اختلاط الأنساب والدياثة في أنواع الأنكحة، وكان يعيش التظالم العظيم بين الشرفاء والمستضعفين، وكان يعيش الربا الذي تعج به تجاراتهم، وكان يعيش أكل حقوق النساء ومنعهن من الإرث، ومنعهن من الزواج لو طلقن ... إلخ إلخ مما كان يعج به المجتمع المكي حينها .. ولكنه كان كذلك يعيش المنكر الأكبر، وهو الكفر بالله تعالى، يعيش ذلك المانع الذي يمنع أن تحسب أية إصلاحات جزئية في ميزان الإسلام، فكان واجبه – كما كان واجب كل نبي وواجب الدعاة من بعده – أن يقرر الميزان الذي توزن به كل تلك الإصلاحات، والتي لا وزن لها خارجه، إلا في ميزان البشر العام.
فمن أراد أن يقرر لهذه الأمور وزنا فله ذلك، وهو حر بعقله الذي هو مناط تكليفه، وسيحاسب هو على نتاج هذا العقل المكلّف، ولكنه – حينئذ – ينبغي عليه أن يعطي دعوته توصيفها الصحيح من كونها إصلاحية أو أخلاقية أو اجتماعية .. إلخ .. وليرفع عنها صفة الدعوة (الإسلامية).
إن الخطأ إذا لدى المصححين أو المنبهرين المادحين، ليس هو في ذات قضية العمل الواقعي الجاد والتفاعل مع المجتمع، كما قد يظهر لأول وهلة؛ إنه في عدم فهم أصول الدعوة الإسلامية ذاتها، وفي عدم تصور مكان الجزئيات الإصلاحية من الإسلام، ومتى يكون – أو لا يكون - لها اعتبار. والحمد لله على نعمة التوحيد.