حاجتهم في تلك الأشهر، فإذا جاء صفر بادَر كلُّ مَن في نفسه حنقٌ على عدوِّه فثاوَرَه، فيكثر القتل والقتال؛
ولذلك قيل: إنَّه سُمِّي صفرًا؛ لأنَّهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون مَن لقوه صفرًا من المتاع والمال؛ أي: خلوًا
منهما، قال الذبياني يحذِّر قومه من التعرُّض لبلاد النُّعمان بن الحارث ملك الشام في شهر صفر:
لَقَدْ نَهَيْتُ بَنِي ذُبْيَانَ عَنْ أُقُرٍ
وَعَنْ تَرَبُّعِهِمْ فِي كُلِّ أَصْفَارِ
ولذلك كان مَن يريد العمرة منهم لا يعتَمِر في صفر؛ إذ لا يأمن على نفسه، فكان من قواعدهم في العمرة أنْ
يقولوا: "إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر - حلَّت العمرة لِمَن اعتمر"، على أحد التفسيرين في المراد من
صفر، وهو التأويل الظاهر، وقيل: أرادوا به شهر المحرم، وأنَّه كان في الجاهلية يُسمَّى صفر الأول، وأنَّ تسميته
محرمًا من اصطِلاح الإسلام، وقد ذهَب إلى هذا بعض أئمَّة اللغة، وأحسب أنَّه اشتباهٌ؛ لأنَّ تغيير الأسماء في
الأمور العامَّة يُدخِل على الناس تلبيسًا لا يقصده الشارع، ألاَ ترى أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَمَّا
خطَب حجَّة الوَداع فقال: ((أي شهر هذا؟))، قال الراوي: فسكتنا حتى ظننَّا أنَّه سيُسمِّيه بغير اسمه، فقال:
((أليس ذا الحجة؟))، ثم ذكَر في أثناء الخطبة الأشهر الحرم، فقال: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر ا
الذي بين جماد وشعبان، فلو كان اسم المحرم اسمًا جديدًا لوضَّحَه للحاضرين الوارِدين من الآفاق القاصية، على
أنَّ حادثًا مثل هذا لو حدث لتناقله الناس، وإنما كانوا يُطلِقون عليه وصفر لفظ الصفرين تغليبًا، فنهى النبي - صلَّى
الله عليه وسلَّم - عن التشاؤم بصفر
روى مسلمٌ من حديث جابر بن عبدالله وأبي هريرة والسائب بن يزيد - رضِي الله عنهم - أنَّ رسول الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - قال: ((لا عدوى ولا صفر))، اتفق هؤلاء الأصحاب الثلاثة على هذا اللفظ، وفي رواية بعضهم زيادة:
((ولا هامة ولا غول، ولا طيرة ولا نوء)).
وقد اختلف العلماء في المراد من صفر في هذا الحديث، فقيل: أراد الشهر، وهو الصحيح، وبه قال مالك وأبو عبيدة
مَعمَر بن المثنى، وقيل: أراد مرضًا في البطن سُمِّي الصفر، كانت العرب يعتَقِدونه معديًا، وبه قال ابن وهب ومطرف
وأبو عُبَيد القاسم بن سلاَّم، وفيه بُعدٌ؛ لأنَّ قوله: ((لا عدوى)) يُغنِي عن قوله: ((ولا صفر))، وعلى أنَّه أراد الشهر
فقيل: أراد إبطال النَّسِيء، وقيل: أراد إبطال التشاؤم بشهر صفر، وهذا الأخير هو الظاهر عندي، ووجه الدلالة فيه
أنَّه قد علم من استعمال العرب أنَّه إذا نفى اسم الجنس ولم يذكر الخبر أن يقدر الخبر بما يدلُّ عليه المقام،
فالمعنى هنا: لا صفر مشؤوم؛ إذْ هذا الوصف هو الوصف الذي يختصُّ به صفر من بين الأشهر، وهكذا يقدر لكلِّ
منفي في هذا الحديث على اختلاف رواياته بما يناسب معتقد أهل الجاهلية فيه.
وسواء كان هذا هو المراد من هذا الحديث أم غيره، فقد اتفق علماء الإسلام على أنَّ اعتقاد نحس هذا الشهر
اعتقادٌ باطل في نظَر الإسلام، وأنَّه من بَقايا الجاهليَّة التي أنقَذَ الله منها بنعمة الإسلام، قد أبطَلَ الإسلام عَوائِد
الجاهليَّة فزالَتْ من عقول جمهور المؤمنين، وبقِيَت بَقاياها في عُقُول الجهَلَة من الأعراب البعداء عن التوغُّل في
تعاليم الإسلام، فلصقت تلك العقائد بالمسلمين شيئًا فشيئًا مع تخييم الجهل بالدين بينهم، ومنها التشاؤم
بشهْر صفر، حتى صار كثيرٌ من الناس يتجنَّب السفر في شهر صفر اقتباسًا من حذَر الجاهليَّة السفر فيه خوفًا
من تعرُّض الأعداء، ويتجنَّبون فيه ابتِدَاء الأعمال خشية ألاَّ تكون مباركة، وقد شاعَ بين المسلمين أنْ يصفوا شهر
صفر بقولهم: صفر الخير، فلا أدري هل أرادوا به الرد على مَن يَتشاءَم به، أو أرادوا التفاؤل لتَلطِيف شرِّه كما يُقال
للملدوغ: السليم؟ وأيًّا ما كان فذلك الوصف مؤذن بتأصُّل عقيدة التشاؤم بهذا الشهر عندهم.
ولأهل تونس حظٌّ عظيم من اعتقاد التشاؤم بصفر، لا سيَّما النساء وضعاف النفوس، فالنساء يسمِّينه "ربيب
العاشوراء"؛ ليجعلوا له حظًّا من الحزن فيه وتجنب الأعراس والتنقُّلات [10].
ربيع الأول: سُمِّي بذلك لأنَّ تسميته جاءَتْ في الربيع فلزمه ذلك الاسم.
¥