تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

159] عبد الله بن أبي رأس المنافقين قال في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المهاجرين في غزوة المريسيع عند المشلل: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يَأكُلك، يقول هذا في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقول أيضاً ظاناً أن خزائن السماوات والأرض بيده: {لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} [سورة المنافقون: 7] يقول أنتم الذين آويتموهم وأطعمتموهم فلا تنفقوا عليهم من أجل أن يتفرقوا عن بلادكم عن مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويبحثوا عن بلد آخر تؤويهم، هذا من أصحاب النفوس الصغيرة، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاحب نفس كبيرة، فلما مات ذهب إلى قبره، وأعطى ابنه قميصه -صلى الله عليه وسلم- ليكفن به، وقام على قبره يستغفر له حتى نهاه الله -عز وجل- عن ذلك، ولما نهاه الله بقوله: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} [سورة التوبة: 80] يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر لهم لفعلت)) (1) أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، هذا في رجل لطالما آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآذى المؤمنين، فهو الذي أفَك الإفك وسعى به، وتولى كبره، واتهم عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبشع تهمة، وقال أقبح القول، ومع ذلك يعفو عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصلي عليه، ويدفع قميصه لابنه ليكفن به، ثم يقوم على قبره يستغفر له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم حاله، وهذا لا يفعله إلا القلوب الرحيمة الكبيرة الواسعة، وليس معنى ذلك تمييع قضية الولاء والبراء فهي أصلٌ ثابت كما ذكرت في أول هذا الكلام، لكن ينبغي أن نفرق بين أمرين بين شأن الولاء والبراء وبين حظ النفس، فالولاء والبراء ثابت في القلب، وأما النفس فدعها خلف ظهرك ولا تنتصر لها ولا تقف عندها؛ فالكبار لا يليق بهم أن يدوروا حول أنفسهم، حقد مع هذا، ومشكلة نفسية مع هذا، وقضية شخصية مع الثالث، وكما يقال وقفة نفس مع فلان، وما إلى ذلك من الأمور، فهذا لا يصلح أن يكون داعية، بل هذا يفسد أكثر مما يصلح، يدعو على هذا في ثلث الليل الآخر، ويلعن هذا، ويعلن صراحة بلا مواربة للآخر أنه لا يمكن أن يعفو عنه حتى يقف معه بين يدي حكم عدل وهو الله - سبحانه وتعالى - في يوم تشخص فيه الأبصار هكذا بعضهم يعبر، فمن كان بهذه المثابة فهو لا يصلح للدعوة بل عليه أن يدعو نفسه، وأن يعالج قلبه، ثم بعد ذلك يسعى في إصلاح الآخرين، لأن هذا إذا اشتغل بدعوتهم لربما أفسد أكثر مما يصلح، يصنع مشكلة مع هذا، وعداوة مع الآخر، فيتفرق المدعوون عنه، وينفضوا ويبقي وحده.

ولما مرض شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مرض الوفاة وأين؟ في المستشفى، في القصر، مرض مرض الوفاة في السجن، وقد منع عنه كل شيء حتى الأقلام والأوراق منعت منه لئلا يؤلف، بتحريض من هؤلاء المبتدعة من شيوخ الضلالة ومن الحسدة، كأن بعضهم قد تحرك ضميره فجاء إلى شيخ الإسلام وأين؟ في السجن الذي لا زال مأسوراً جاء إليه يعتذر إليه، ويلتمس منه أن يحلله، ما قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- آلآن في الصيف ضيعت اللبن، هلا كان ذلك أولاً؟، هيهات أن أعفو عنك، وأن أصفح، وأن أحللك! ما قال شيئاً من ذلك، بل قال: إني قد أحللتك، وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق، وقال: وإني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي كونه فعل ذلك مقلداً غيره.

أيها الإخوة: من كان بهذه المثابة فقلبه يتقطع من الغل، ولا ينام الليل لأنه يتقطر على هؤلاء الخصوم، ثم هو يموت ولم يقتص منهم ولم يأخذ بثأره، ولم يتشف من هؤلاء الأعداء، إنه يموت في السجن وهم يشمتون به، ويستريحون للخلاص من شخصه، ما قال: الآن أموت كمداً، " تعلم شفاء النفس قهر عدوها " كما يقول بعضهم، وإنما قال: قد أحللت الجميع.

بل أكثر من هذا لما وقع للملك الناصر انقلاب فذهب عليه ملكه؛ وكان الذي قام بهذا الانقلاب ملك يقال له المظفر ركن الدين بيبرس؛ وكان هؤلاء العلماء والفقهاء والقضاة والحسدة الذين لم يفتئوا، ولم يألوا جهداً في الوشاية بشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كانوا قد التفوا حول هذا الملك الجديد، وصاروا حاشية له، وأداروا ظهورهم للأول:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير