تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكنها أحوال تذكِّر بعهود التسلط والاستعمار، في بعض البلدان في الماضي، وما أشبه الأجواء الثقافية لعهد العولمة الحاضر بالأجواء الثقافية بعهد الاستعمار الغابر، من حيث تسويغ الاستلاب الثقافي والديني عن طريق الهجوم الشرس على اللغة وزعزعتها في حياة الأمة، وإحلال اللغة الأجنبية بمسوّغات بالية.

وحين يحدثونك عن اللغة وسوق العمل ليتهم يحدثونك عن مصطلحات علمية، وتقنيات متقدمة، واتصال بالجديد من العلم والتقنية، ولكنه مع الأسف ليس سوى إتاحة لعمالة وافدة متوسطة التأهيل، ومتدنية الكفاءة، تتربّع على مواقع العمل في المؤسسات والشركات، والأسواق والتجارة، مهمتهم عرض البضائع وترويج السلع، وترتيب المستودعات، وقيد السجلات، وضبط المراسلات.

سوق عمل مخزي، تحولت فيه المستشفيات والفنادق وبعض أقسام الجامعات وبعض الأسواق ومعارض البضائع والتجارات واللوحات الإعلانية والتجارية، تحول كل ذلك إلى بيئات أجنبية، يتبادل فيها أبناء الأمة لغة أو لغات أجنبية، حتى تحولت قوائم الأطعمة والسلع والأسعار إلى اللغة الأجنبية، وفرضت وجودها وأنماطها على شرائح واسعة من أجيال الأمة، فاضطربت لغة التخاطب، وفسدت الألسن، وزادوا تخلفًا إلى تخلفهم، وضعفًا إلى ضعفهم، وامتلأت سوق العمل بالوافدين من غير حاجة حقيقية، ويريدون من أبناء الأمة أن يتحدثوا اللغة الأجنبية من أجل هؤلاء، زاعمين أنهم بهذا يهيئون لأبنائهم فرص العمل.

أيها المسلمون، أيها المخلصون:

إن وجود وافدين مهما كان عددهم، ومهما كانت الحاجة إليهم، بل مهما كان مستواهم العلمي والفني، لا يجوز أن يكون سبيلاً للتفريط في السيادة على أرضنا، وقد علم العقلاء والاجتماعيون، فضلاً عن العلماء والمربين أن اللغة من أهم مظاهر السيادة، وكم تمزقت بلاد حين تعددت لغاتها، بل لقد ظهرت مبادئ انشقاق وطني في بعض الشعوب، وتصدعت صفوفها، وتسببت في إثارة الفتن والنعارات من أبناء البلد الواحد مما تشاهد آثاره المدمرة ماثلة أمام العيان، والأعداء لنارها يوقدون.

إن من الغفلة الشنيعة الزعم بأن مصلحة السوق، ودواعي الاستثمار تتطلب لغة أجنبية، فكل بلاد العالم ولا سيما المتصدرة منها قائمة التقديمة لا يمكن أن تُؤثر شيئًا على لغتها مهما كانت الأسباب والدواعي والدوافع.

أما كان الأجدر بهؤلاء إن كانوا وطنيين مخلصين أن يجعلوا تحدث لغتها شرطًا في العمالة الوافدة، بدلا من إجبار أبنائنا أن يتحدثوا لغة أجنبية من أجل هؤلاء الوافدين؟! إن هذا ـ والله ـ لانتكاسة عجيبة.

وبعد أيها المؤمنون:

وفي محاسبة جادة، ومساءلة صادقة، إن كثيرًا من الشعوب الموصوفة بالنامية قد انزلقت في تعليم أو تعميم اللغة الأجنبية في أبنائها، فماذا أفادت وماذا استفادت؟ هل خرجت من قوس النامية هذا؟!

إن أعداءكم اليهود قد أحيوا لهم لغة مندثرة، لا حضارة لها ولا تاريخ، فأصبحت هي لغة العلم والأدب والحياة.

إن أي أمة تروم التقدم والقوة والعزة والاعتماد بعد الله على نفسها لا يمكن أن تمتلك زمام العلم والتقنية إلا حين تعلّم ذلك كلَّه بلغتها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل. [الشعراء: 192ـ 197].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


[1] أقنوم الحضارة: أي أصلها.

[2] عزاه شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/ 407 ـ 409) إلى السلفي من حديث الحسن بن رشيق، ثنا أحمد بن الحسن بن هارون، ثنا العلاء بن سالم، ثنا قرة بن عيسى الواسطي، ثنا أبو بكر الهذلي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلاً وقال: "هذا الحديث ضعيف، وكأنه مركب على مالك، لكن معناه ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه".

انتهت الخطبةالأولى

ـ[أنوار الأمل]ــــــــ[03 - 05 - 2005, 12:03 ص]ـ
الخطبة الثانية

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير