ثم قال عَقِبه: ثم علامةُ كون الكلمة فصيحةً أن يكون استعمالُ العربِ الموثوقِ بعربيتهم لها كثيراً أو أكثرَ من استعمالهم ما بمَعْنَاها وهذا ما قدَّمتُ تقريره في أول الكلام فالمرادُ بالفصيح ما كَثُر استعمالهُ في أَلْسِنَة العرب وقال الجاربردي في شرح الشَّافية: فإن قلتَ: ما يُقْصَدُ بالفصيح وبأيِّ شيءٍ يُعْلَم أنه غيرُ فصيح وغيره فصيح قلت أن يكونَ اللفظُ على أَلْسِنَة الفصحاءِ الموثوقِ بعربيتهم أدْور واستعمالهم لها أكْثر فوائد - بعضها تقريرٌ لما سبق وبعضها تعقّب له وبعضها زيادة عليه: الأولى - قال الشيخ بهاءُ الدين السبكي في عروس الأفراح: ينبغي أن يُحمَل قوله: «والغرابة» على الغَرَابةِ بالنسبة إلى العرب العَرْباء لا بالنّسبة إلى استعمال الناس وإلاّ لكان جميعُ ما في كُتُب الغريب غيرَ فصيح والقَطعُ بخلافه قال: والذي يقتضيه كلامُ المفتاح وغيرِه أن الغَرَابة قِلَّةُ الاستعمال والمرادُ قلّةُ استعمالها لذلك المعنى لا لِغَيره الثانية - قال الشيخ بهاءُ الدين: قد يَرِد على قوله: ومخالفة القياس ما خالَف القياسَ وكَثُر استعماله فورد في القرآن فإنه فصيح مثل اسْتَحْوذ وقال الخطيبي في شرح التلخيص: أما إذا كانت مخالفةُ القياس لِدَليل فلا يخرج عن كونه فصيحاً كما في سُرر فإن قياس سَرير أنْ يجمع على أَفْعلة وفُعْلاَن مثل أرغفة ورُغْفان.
وقال الشيخ بهاءُ الدين: إن عَنَى بالدليل ورودَ السَّماع فذلك شرطٌ لجواز الاستعمال اللُّغوي لا الفَصَاحة: وإن عَنَى دليلاً يصيِّره فصيحاً وإن كان مخالفاً للقياس فلا دليلَ في سُرر على الفَصَاحة إلاّ وروده في القرآن فينبغي حينئذ أن يُقال: إن مخالفَة القياس إنما تُخِلُّ بالفصاحة حيث لم يقع في القرآن الكريم.
قال: ولقائل أن يقولَ حينئذ: لا نُسَلِّم أن مخالفةَ القياس تُخِلُّ بالفصاحة ويُسْنَد هذا المنع بكَثْرةِ ما وَرَدَ منه في القرآن بل مخالفةُ القياس مع قلَّةِ الاستعمال مجموعُهما هو المخلّ.
قلت: والتَّحقيقُ أن المُخِلّ هو قلةُ الاستعمال وحدَها فرجعت الغَرَابةُ ومخالفةُ القياس إلى اعتبارِ قلّة الاستعمال والتنافر كذلك وهذا كلَّه تقريرٌ لكَوْن مدَار الفصاحة على كثرة الاستعمال وعدمها على قلَّته.
الثالثة - قال الشيخ بهاء الدين: مُقْتَضى ذلك أيضاً أن كلَّ ضرورة ارتكبها شاعر فقط أخرجت الكلمةَ عن الفَصَاحة.
وقد قال حازم القرطاجني في مِنْهاج البُلَغَاء: الضَرائر الشائعة منها المُسْتَقْبَحُ وغيره وهو ما لا تستوحش منه النَّفس كصَرْف ما لا ينصرف وقد تستوحش منه في البعض كالأَسْماء المَعْدُولة وأشدّ ما تَسْتَوْحِشُه تنوينُ أفعل منه ومما لا يُسْتَقْبَح قصرُ الجمع الممدود ومَدّ الجمع المقصور وأقبحُ الضرائر الزيادةُ المؤدّيةُ لما ليس أصلاً في كلامهم كقوله: أدْنو فأنظُور أي أنظر.
والزيادة المؤدّيةُ لما يقلَّ في الكلام كقوله: فاطأت شيمالي أي شمالي وكذلك النقص المُجْحِف كقوله: دَرَسَ المَنَا بمُتَالِعٍ فأَبانا أي المنازل.
جَدْلاَءُ محْكَمةٍ من نَسْج سَلاَّم أي سليمان انتهى.
وأطلق الخفاجيّ في سرِّ الفصاحة إن صرفَ غير المنصرف وعكْسَه في الضرورة مخلٌّ بالفصاحة.
الرابعة - قال الشيخ بهاءُ الدين: عدَّ بعضُهم من شروط الفصاحة ألاَّ تكونَ الكلمةُ مُبتَذلة: إما لتغيير العامَّة لها إلى غير أصلِ الوضع كالصُّرْم للقَطْع وجعلته العامة للمحلِّ المخصوص وإما لسخافتها في أصل الوضع كاللَّقَالق ولهذا عدَل في التنزيل إلى قوله: «فأَوْقِدْ لِي يا هَامانُ على الطِّين» لسخافة لفظ الطّوب وما رَادَفه كما قال الطيبي ولاستثقال جَمع الأرض لم تُجْمَع في القرآن وجُمِعت السماء حيثُ أُريدَ جمعها قال تعالى: «ومن الأرض مثْلهنّ» ولاسْتثقال اللُّب لم يقع في القرآن ووقع فيه جمعُه وهو الألباب لخِفَّتِه وقد قسَّم حازم في المنهاج الابتذا لَ والغَرَابة فقال: الكلمة على أقسام: - الأول: ما استعملَتْهُ العربُ دون المحدثين وكان استعمال العربِ له كثيراً في الأشعار وغيرها فهذا حسنٌ فصيح.
- الثاني: ما استعملَتْه العربُ قليلاً ولم يحسن تأليفُه ولا صيغتُه فهذا لا يَحْسُن إيراده.
- الثالث: ما استعملَتْهُ العربُ وخاصَّةُ المحدثين دون عامتهم فهذا حسنٌ جدّاً لأنه خلص من حُوشيَّة العربِ وابتذالِ العامّة.
- الرابع: ما كثُر في كلام العرب وخاصَّة المحدَثين وعامتهم ولم يكثر في أَلْسِنة العامة فلا بأس به.
- الخامس: ما كان كذلك ولكنه كثُرَ في ألْسِنة العامة وكان لذلك المعنى اسمٌ استغنتْ به الخاصَّةُ عن هذا فهذا يَقْبَحُ استعماله لابتذاله.
- السادس: أن يكون ذلك الاسم كثيراً عند الخاصة والعامة وليس له اسمٌ آخر وليست العامة أحوج إلى ذِكْره من الخاصِة ولم يكن من الأشياء التي هي أنسب بأهل المِهَن فهذا لا يَقْبُح ولا يُعَدُّ مُبْتَذَلاً مثل لفظ الرأس والعين.
- السابع: أن يكون كما ذكرناه إلاّ أن حاجةَ العامّة له أكثر فهو كثير الدَّوَرَان بينهم كالصنائع فهذا مُبتذل.
- الثامن: أن تكون الكلمةُ كثيرةَ الاستعمال عند العرب والمحدَثين لمَعْنًى وقد استعملها بعضُ العرب نادراً لمعنى آخر فيجب أن يُجْتَنَبْ هذا أيضاً.
- التاسع: أن تكون العربُ والعامةُ استعملوها دون الخاصّة وكان استعمالُ العامَّة لها من غير ثم اعلم أن الابتذالَ في الألفاظِ وما تدل عليه ليس وصفاً ذاتيّاً ولا عَرَضاً لازماً بل لاحِقاً من اللَّواحق المتعلِّقةِ بالاستعمال في زمان دون زمان وصُقْع دون صُقع.