[حارتنا القديمة *]
ـ[عبدالوهاب]ــــــــ[12 - 06 - 2006, 10:22 م]ـ
حارتنا القديمة*
بعد تلك القيلولة المريحة، أزحتُ بطانيتي عن جسدي المنتعش والمنتشي بشعورٍ غريب، شعرتُ برغبة ٍ جامحةٍ تُلِحُ في نفسي لزيارة بيتنا القديم الذي رحلنا عنه منذ ثلاث سنوات ....
نهضت ُ من فراشي ... مسحتُ وجهي ... أدرتُ محرك السيارة، دخلت حارتا القديمة، وأنا أرقب تلك الأبنية القديمة والزقاق الضيقة ... أحنيت رأسي خجلاً منها خُيَّل إلي أنها تعاتبني عتاب أمٍ تمادى ابنها في هجرها، أوقفت ُ سيارتي بجانب بيتنا، حاولتُ جاهدا فتح الباب بذلك المفتاح الصدىء، محاولات شاقة تكللت بانفراج الباب على مصراعيه، على بوابة الزمن القديم، فناءُ المنزل مغطى بنسيج عشبٍ يابس، وعلب مرطباتٍ فارغة وأوراق صفراء ألهبت بياضَها الشمس .. تطير هنا وهناك، وكأنها تستحثني لملاحقتها، وقراءة فرحي الطفولي عليها حينما أكمل كتابة قطعة شاقة من درس القراءة، أو أصل لحل مسألة حسابية عسيرة ... أزحتُ نظارتي الشمسية عن وجهي؛ لأرى الصورة بوضوح ٍ أكبر التقطت ورقة هاربة أخطأت طريقها لتصطدم بقدمي، رفعتها لأرى ما فيها .. ألفيتها دون وجهٍ، شاحبة الملامح، قربتها لأنفي لأستنشق منها ذلك الزمن المتسرب إلى البعيد ... عَبَقُ طفولةٍ تقافز أمامي حاولتُ إمساكه تسرب هو ـ أيضاً ـ إلى ذات الهوة السحيقة ... مططتُ الورقة بين يديَ المرتعشتين .. استنطقها لكنها خرستْ عن جوابي .. تدحرجت ْ من عينيّ دمعةٌ حرّى استقرتْ على صدر الورقةِ المرتجفة، تسللت إلى أصابعي رعشتُها سائلةً عتقها من هذه المحاكمة الجائرة .......
ـ دلفتُ إلى غرفتنا الصغيرة التي كانت تجمعني وأََخَوَيّ ... التراب ُ يُغطّي الأرضية والعناكبُ قد نسجتْ حبالها على أبواب الغرفة ونوافذها بإحكامٍ شديد، كأنها تود اكتناز ذاك الزمن القديم (بالداخل) وتمنعه من معانقة الزمن الجديد (بالخارج) .... حرارةُ غرفتنا مرتفعة جداً ... أنفاسنا مازالت في زوايا غرفتنا القديمة حيةً .... صراخنا مافتىء حاضراً، بكاؤنا .. فرحنا .. همسنا .. تحالفنا .. عراكنا .. كلُّ شيء كان حيا كأنا لم نغادر من هنا ....
ـ هاهي رسمة ُ أخي سالم التي رسمها على حائط الغرفة على مرأى مني ومن أخي عابد: ريح ٌ سوداء ُعاصفة ٌ تحاول بضراوةٍ اقتلاع ثلاث شجرات: كبرى و وسطى وصغرى.
الآن، بدأتُ أدرك مغزى ما كان يقصده أخي سالم، تذكرتُ سؤال أخي عابد لسالم: لم هذه العواصف والشجر؟؟!
ـ أخي عابد قًُتل في مشاجرة في حارتنا الجديدة بسكين غادرة، أخي سالم وبعد أسبوع من مقتل عابد أقدم على قتل شقيق قاتل أخي عابد، ثم اقتيد للسجن ليقضي عقوبته، تأملت ُ الشجرات الثلاث والريح العاصفة، مسحتُ بيدي عليها أتحسسها ... أهدهدُ ثورانها لكنها مازالتْ تعصف وتقصفُ غضبها نحو الشجراتِ الثلاث ... مسحتُ دموعي بأناملي المرتعدة وعدتُ أمسح الحائط من مهبِ العاصفةِ؛ لعلها ترأفُ بهذه الدموع المستجدية وتهداُ يوماً ما، ريح ٌ قوية ٌ حركتْ ذلك التراب النائم على أرضية الغرفة ... إعصارٌ صغيرٌ يقف على قدميه في غرفتنا الصغيرة، صر صرة قوية تجلجلُ في أذني أهرولُ إلى الخارج ِ وأنا أعيدُ إقفال ذلك الباب المهترىء.
*عبدالوهاب بن حسن النجمي
[email protected]
ـ[أبو طارق]ــــــــ[12 - 06 - 2006, 10:33 م]ـ
بارك الله فيك وفي قلمٍ يقطر إبداعاً تألقاً وإبداعاً
ـ[عبدالوهاب]ــــــــ[13 - 06 - 2006, 11:52 م]ـ
أخي أبا طارق أشكزك على كلماتك الجميلة وتشجيعك لموهبتي المتواضعة ...... وشهادتك محل اعتززاز مني
ودمتم سالمين
ـ[معالي]ــــــــ[21 - 06 - 2006, 09:35 م]ـ
السلام عليكم
يعاني منتدى الإبداع من شح في المشاركات النثرية، وما إخال الأستاذ عبدالوهاب إلا قد سد هذه الثغرة باقتدار!
ونحن بانتظار عبور نقادنا المتميزين، سلمهم الله.
ودمت أستاذنا باعثا على الاحتفاء بما تأتي من البديع.
ـ[محمد الجهالين]ــــــــ[23 - 06 - 2006, 09:30 م]ـ
أخي عبدالوهاب
هذه دلاء انطباع، لا دلاء اضطلاع
تتمايس الخاطرة بين الشعر والقصة القصيرة، تتشح بشاعرية التصوير عبارة وإيقاعا، وإن لم تبرح نثرية التعبير قصا وسردا.
"على بوابة الزمن القديم"
"ذلك الزمن المتسرب إلى البعيد"
بمثل هذه التراكيب يحتفل التذوق الفني إعجابا، وبمثلها يرتحل التأمل العفوي اختلابا.
"إعصارٌ صغيرٌ يقف على قدميه في غرفتنا الصغيرة"
في هذه الجملة البديعة تعبيرا، البارعة تصويرا، يتجلى مغزى الخاطرة، وتتبلور حبكتها، الإخوة الثلاثة تطايروا من الغرفة، عابد مدفونا، وسالم مسجونا، والكاتب مشجونا.
" ثلاث سنوات "
قد يصدأ فيها الباب قليلا
ولكن
" حاولتُ جاهدا فتح الباب بذلك المفتاح الصدىء "
أين كان المفتاح ليصدأ في ثلاث سنين؟
وضوح الأفكار،
سلاسة الأسلوب،
براعة الوصف،
توظيف الصور
تناسقت اختيالا، فأثرت الخاطرة جمالا