[الراعي والشعر]
ـ[حسين العفنان]ــــــــ[16 - 02 - 2006, 04:47 م]ـ
[الراعي والشعر]
حسين بن رشود العفنان - حائل*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله:
بينا أنا سائر على ظهر سيارتي أطوي المفاوز، وأنتعل المهامه؛ إذ بها تقف على حيد الطريق فجأة، فسكن بطرفة عين وانتباهها كل متحرك فيها، وإذ بي في قلب سبسب مقفرة، قد نصب الموت فيها خيامه، واستعد يستقبل ما أمامه.
فتعوذت بكلمات الله التامة من شر ما خلق، وترجلت وبدأت أتفقدها من ألفها إلى يائها؛ فما وجدت شيئاً يعيبها، فقعدت أحدُّ النظر في الطريق لعل قادماً ينقذني من الهلكة، فما رضي أن يقف أحد، ولا أن يمد يد العون مخلوق، فأسفت لانقطاع الخير بين الناس! حتى تيقنت أنني هالك لا محالة، ومودع الدنيا دون أدنى شك، همت على وجهي حتى لم أكد أرى الطريق، فلما بلغ بي الصدى مبلغه، وما بقي على الموت إلا شفىً؛ غشي علي فما انتبهت إلا وماء بارد نمير يتدفق على وجهي من وكاء أعرابي قد قلبته الصحراء على ظهرها فكأنه ابن من أبنائها، فقلت: اسقني فسقاني؛ فأومأت أن زد فزادني، وحين استطعت الكلام شكرت له صنيعه، وسألته إن كان له معرفة بعلل الدواب الحديدية، فقال: لسيدي ابن يدرس في المدينة فهو يخرج والشمس في خدر أمها على دابة كدابتك هذه؛ فلنذهب إليه لعلك أن تجد ما يشفي غليلك! فقلت على بركة الله، فسرت معه وكان راعياً قد لحقت غنمه بنا، فكنت لا أعرف أين أنا في بلاد الله، فكل شيء متشابه الحجر والنبات والحيوان، وكلها قد اعتادت هذا الجمر المتوقد، وكلها تحمل صفات هذه المهمة المهلكة من الجفاف والخشونة.
سرنا وبساط الحر قد فرش، ولا ظل إلا تحت النعل، والشمس قد قامت على هاماتنا فغلت رؤوسنا، وألجمنا العرق إلجاماً! وخفف وجدي أني لحظت على هذا الراعي تغنيه بشعر الصحابة الجزل كحسان شاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة وكعب - رضي الله عنهما - وشيء غير قليل من شعر أهل المعلقات والأمويين والمحدثين، فاستنامت نفسي إليه لفصاحة لسانه، وحسن ترنيمه وإنشاده، فأحسست وكأني على زرابي وثيرة تحت شجرة أتفيء ظلالها، فلم أصبر فسألته: أتحفظ الشعر وتقرضه!!
فقال: نعم
فاستنشدته فأنشدني حتى طربت، فاستأذنته فقلت: معي بضاعة من القريض أستشرف منك أن تعجمها وتقومها، فغضب واحمرت أوداجه، وتمعر وجهه، وكاد يبطش بي، فحصر من الغضب والحرد، فقلت في عجبٍ: ما أغضبك - رحمك الله -؟!
قال: أتظنني جاهلاً بقريضكم - واستغفر الله من تسميته قريضاً -، أتسمي هذيانكم شعراً، أو ما تعلم أنني سمعت منه ما أصم أذني، وأدمى قلبي، وآذاني وآلمني!! وصدق العلامة الطنطاوي - رحمه الله تعالى - حين قال: أن شعر الحداثة يشبه الحدث الأكبر، ولكن لا يطهره شيء، ولا الغسل سبعاً إحداهن بتراب المقبرة الذي تتمنون أن تدفنوا فيها (الشعر)! فقلت: لا يذهبن بك الغضب إلى ظلمي، فأنا لن أروي لك من فاحش الحداثة: أي شيء!! فاستشاط وقال: ستروي لي من شعر التفعيلة، ذلك الشعر فعل الله به وفعل!!، ذلك الشعر (كالسكر الذي لا حلاوة فيه)!! بل كل المر فيه! واأسفاه! (الشعر اليوم لبس البلى، وتعطل من الحلى)!! قلت: بل هو شعر بني على نهج أسلافنا، وهو مما يرضاه الخليل وسيبويه، سأروي لك شعراً خليليلاً موزونا مقفى، ما زالت - هديت - الحلي عليه، والحلاوة فيه!
وبعد لأي وجهد، ورفع وخفض، قال: هات!!، فتنفست الصعداء: فأنشدته لأبي أسامة حسان الصحوة، وأمير شعراء الإسلام: عبد الرحمن العشماوي من قصيدة التي يقول فيها على لسان أم مسيكنة شردتها الحرب:
مَنْ لي، ومَنْ لصغيرتي وصغيري=في زحمةِ الغاراتِ والتفجيرِ؟
مَنْ لي إذا هَجَم الظلامُ وليس لي=إلاَّ رُكام المنزلِ المطمور
مَنْ لي إذا جُنَّ الرَّصاص وأتقنتْ=لغةُ المَدافعِ لهجةَ التدمير؟
فأطرق وبدأ وجهه يصفر، فسكتُ؛ فأومأ لي أن أكمل، فأنشدته حتى وصلت لقوله:
لكنْ هَبُوني كسرةً من خبزةٍ=نَسيتْ متى خرجتْ من التنُّور
فأنا أَنام على الجنادلِ والثَّرى=وعلى رَصاص الغارةِ المنثور
هلاَّ استمعْتَ إلى بكاءِ صغيرها=وإلى أَنينِ فؤادها المفطورِ
هلاَّ نظرتَ إلى دموع عَفافها=وإلى جناحِ إبائها المكسور
فلم يتمالك نفسه فبكى، وكدت أبكي معه لكن حملتها على المكروه، وأنشدته حتى وصلت خاتمتها:
¥