تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

8 - منهج الحوار في القرآن الكريم: http://www.alrashad.org/10-02-mi.htm

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:أخي السائل عن المناضرة أردت أن أفيدك بمحاضرة مسجلة عندي حول المناضرات في عصر المماليك علك تجد فيها ضالتك والله الموفق.

حوار أدبي حول فنالمناظرات

نأتي -بعد الانتهاء من الحديث عن الكتابة بأنواعها وفنونها؛ الديوانية والأدبيةوالوصفية- إلى فنٍ آخر من فنون النثر الأدبي في العصر المملوكي هو فن المناظرات، والمناظرات -أو فن المناظرات- لون من النثر الفني ينهض على سعة الأفق وحسن التأتي ويقظة الذهن ونبوغ الموهبة، وهو عبارة عن مفاخراتٍ أو موازناتٍ قائمة على الحواربين شيئين، يحاول كل من الشيئين تفضيل نفسه على نظيره، أو مفاخره بما يسوقه الكاتب على لسانه؛ من إظهار خصائصه وتجلية محاسنه؛ مستهدفًا تفضيله، وقد يتوخى ذكر معايب الآخر حتى ينهي المحاورة بالمصالحة أو بتغلب أحدهما.

سدنة فن المناظرات يقيمون فَنَّهم هذا بين الأشياء المتناقضة التي تربط بينهاجامعة ما؛ كفصول السنة والأزهار والمدن والسيف والقلم وأشباه ذلك. موضوع المفاخراتليس وليد العصر المملوكي؛ فهو موضوع قديم، رأينا شيئًا منه عند الجاحظ في كتاب (الحيوان) في وصف الكتاب في المناظرة التي أجراها الجاحظ بين الكتاب والصديق, وفي الموازنة التي أجراها الجاحظ أيضًا بين الربيع والخريف، وفي المناظرة التي أجراهاالجاحظ أيضًا بين الديك والكلب، ثم إن هذا الفن لم يقتصر على المشرق، وإنما عُرِفَ في الأندلس بإفاضة، إلا أنه في العصر المملوكي أصبح فنًّا متميزًا برع فيه كتاب العصر، فقد اتسع نطاقه، وكثرت أغراضه، وشاع عند الأدباء حتى بلغت دائرة المفاضلات في عصر المماليك التي اتَّسَعَتْ وَامْتَدَّتْ إِلَى الْمُفَاضِلَةِ بين البلاد أوالأقاليم، لدرجة أن المفاضلات بين المدن كانت تَتَنَاظَرُ وتتناقض أحيانًا في مدينةٍ واحدةٍ بعينها؛ فمناظرة تمدح وأخرى تقدح.

وفي خطط المقريزي رسالتان في مدينة القاهرة؛ إحداهما: قدح، والأخرى: مدح، ولكل وجهة، من أشهر هذه المناظرات مناظرة السيف والقلم لابن نباتة المصري المتوفى في سنةثمانٍ وستين وسبعمائةٍ للهجرة والتي منها -وقد وردت هذه المناظرة بكاملها في (خزانةالأدب) لابن حجة من الصفحة الرابعة بعد المائة إلى الصفحة التاسعة بعد المائة، وفي (خطط) المقريزي رسائل أخرى أو مناظرات أخرى، وفي (الدرر الكامنة) لابن حجر الجزءالثاني مناظرات أخرى، فتعالوا إلى مناظرة السيف والقلم لابن نبات المصري التي يقولفيها-:

"قال القلم: بسم الله الرحمن الرحيم: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَايَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (القلم: 1: 2). ثمالحمد لله الذي علم بالقلم، وشرَّفه بالقسم أما بعد: فإن القلم منار الدين والدنيا، وقصبة سباق ذوي الدرجة العليا، ومفتاح باب الْيُمْنِ المجرب إذا أعيا، به رَقَّمَالله الكتاب الذي لا يأتيه الباطل وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- التي تهذِّب الخواطر الخواطل، فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة، وحسبه ما جرى على يده الشريفة من مِنَّة، إن نظمت فرائض العلوم فهو سلكها، وإن تشعبت فنون الحكم فإنما هوأمانها ومآلها، الجاري بما أمر الله من العدل والإحسان والمسوَّد الناصر فكأنما هولعين الدهر إنسان، لا يعاديه إلا من سفه نفسه، ولبس لَبْسَه، وطُبِعَ على قلبه، وفل الجدال من غربه، أقول قولي هذا واستغفر الله من الشرف وخيلائه، والفخار وكبريائه.

فعند ذلك نهض السيف عجلًا، وتلمَّظَ لسانُه للقول مرتجلًا وقال: بسم الله الرحمنالرحيم: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌوَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: من الآية25)

الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف، وَشَرَّعَ حدها بيد أهل الطاعة علىأهل العصيان فأغصتهم بماء الحتوف -والحتوف جمع "حتف" وهو الهلاك أو الموت-،وشَيَّدَ بها مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفًا، كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف، أما بعد:

فَإِنَّ السَّيْفَ زند لحقِّ الْقَوِيّ، وزندُهُ الوري، وحده الفارق بين الرشيدوالغوي، به أظهر الله الإسلام، وقد جَنَحَ خَفَاء، وأجرى سيوفه بالأباطح؛ فأما الحق فمكث، وأما الباطل فذهب جفاء، وحملته اليد الشريفة النبوية. أقول قولي هذا، واستغفرالله العظيم من لفظٍ يجمح، ورأي إلى الخصام يجنح، ولسانٍ يحوجه اللدد إلى أن يخرج فيجرح ... إلى آخر ما جاء في هذه الرسالة.

هذه المناظرة على طولها المفرط رائعة كل الروعة، فيها يتحاور الفكر بمنطق العقل المتزن ولغة الثقافة المستنيرة؛ وصولًا إلى الهدف، والمناظرة تنم عن ذكاء كاتبهاوألمعيته، وروعة بديهته، وأريحيته، وقد رأينا الكاتب -كاتب هذه المناظرة- يجري في مضمار البديع، فيحرص -كما رأينا- على السجع والاقتباس، ويحرص على التضمين، في طول الرسالة تجدون تضمينًا لأبياتٍ شعرية كثيرة في تضاعيف هذه الرسالة، ونجده يحرص على الإتيان بالسجع حتى وإن طالت الفقرة، فمثلًا: "وَشَرَّعَ حَدَّهَا بِيَدِ أَهْلِ الطاعة على أهل العصيان، فأغصتهم بماء الحتوف، أو من قوله: الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف. حرصه على السجعة جعله يواكبها، حتى وإن طالت المسافة، "وشرع حدها بيد أهل الطاعة على أهل العصيان، فأغصتهم بماء الحتوف، وشيد بها مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفًا، كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف، كل هذا الطول؛ ليصل في النهاية إلى تحقيق مأربه من الوصول بحديثه إلى سجعة تؤنس كلامه أو مناظرته -كما هومعهود في هذا العصر بعامة، وليس عند ابن نباتة بخاصة- فهذه سمات عامة في الكتابة أوفي المناظرة بوجه عام في ظلال المماليك.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير