تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نقلت لنا مثنى لمحة من سيرة إمام من أئمة الطريق الأوائل: الجنيد، رحمه الله، وهو من هو استقامة وزجرا لأي خارج عن طريقة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن لم يخل، كأي بشر، من زلات غمرت في بحر فضائله وحسناته، نحسبه كذلك ولا نزكيه على ربه، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.

والتصوف كما قلت مثنى: حركة فكرية ظهرت في مرحلة ما بعد الجيل الأول، كرد فعل لتكالب الناس على شهوات الدنيا، فآثر القوم العزلة، ولكن المشكلة كانت في طبيعة هذه العزلة:

فهي عزلة لم تتسلح بالعلم، وإنما غلب عليها جانب الغلو في التعبد بلا حصيلة علمية كافية تقي صاحبها شر الابتداع في الدين، وكلنا يعرف حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهم تقالوها، وقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الثالث: وأما أنا فأقوم ولا أنام، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السلوك الذي سلكه أولئك الأفاضل بحسن نية، لأنه أدرك ما ينطوي عليه هذا الغلو في التعبد من خلل، قد يوقع صاحبه دون أن يشعر في حبائل الابتداع، أو يؤدي به إلى السآمة والملل وترك التعبد جملة وتفصيلا، وهذا ما وقع لغلاة النصارى من الرهبان والقساوسة، الذين غلوا في التعبد حتى حرموا على أنفسهم طيبات أحلت لهم، وما زال الشيطان يستدرجهم في طريق الغلو حتى ملوا وضجروا فوقعوا في الفواحش كرد فعل عكسي لغلوهم في التنسك.

ولم تصل الصوفية إلى الانحراف الذي غلب على المتأخرين، إلا من رحم ربك، وكتاب كـ: "طبقات الشعراني" خير شاهد على ذلك، لم تصل إلى هذا الانحراف الذي نلمسه في سير متأخري الصوفية مرة واحدة، وإنما كان الانحراف شأن كل محدثة في الدين تدريجيا، فظهر أولا:

أناس أفاضل مستقيمو الاعتقاد، غلب عليهم التنسك، فانزعجوا، كما أشرت في مداخلتك، من تكالب الناس على شهوات الدنيا، فبدأت العزلة تدريجيا، وانحاز بعضهم إلى الجبال، فأنكر عليهم من بقي من الصحب الكرام، كعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، وانقضت تلك المرحلة.

وبدأت مرحلة جديدة كان من أبرز أعلامها أئمة كـ: الجنيد، وبشر الحافي، ومعروف الكرخي، والحارث المحاسبي، رحمهم الله جميعا، كان التصوف فيها، مقيدا بضوابط المعتقد الصحيح، وإن شهد بعض الانحراف العملي المتمثل في بعض صور الغلو في التعبد، ولكن كما ذكرت لك آنفا: الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، فحسنات القوم عظيمة تتصاغر أمامها زلاتهم.

وبدأ التصوف يتميز شيئا فشيئا عن الجماعة المسلمة في: اصطلاحاته، في مظهره، في أماكن تجمعاته، فاتخذ القوم في مرحلة تالية دورا خاصة للعبادة والذكر غير المساجد، واستبدل القرآن والذكر الشرعي، بأشعار الغزل وأوراد المشايخ، فكان هذا، كما يقول أحد الأفاضل المعاصرين، بداية الصدام الفكري بين مدرسة التصوف ومدرسة الجماعة المسلمة المتمثلة في علماء وفقهاء الملة الذين استنكروا إنشاد قصائد الغزل مدحا للنبي صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من إساءة لمقام النبوة، وغلو ظهرت آثاره بعد ذلك في ادعاء كثير من المتصوفة، حتى في زماننا هذا، ممن تولوا أرفع المناصب في المؤسسات الدينية الرسمية، خروج النبي صلى لله عليه وسلم عن الطبيعة البشرية فاقتربوا، وهم لا يشعرون، من أقوال النصارى في زعمهم الطبيعة اللاهوتية للمسيح صلى الله عليه وسلم، وقد كان، فكثير من الصوفية يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور، فلم يخلق من نطفة، كما خلق باقي البشر، وإذا أكدت على طبيعة النبي صلى الله عليه وسلم البشرية أمامهم ربما اتهمت بالإساءة إلى جنابه الشريف، لمجرد أنك تذكر حقيقة اتفق عليها كل العقلاء، فهو، بأبي هو وأمي، صلى الله عليهو سلم، بشر، ولكنه ليس بشرا كأي بشر، وإنما بشر اختصه الله، عز وجل، بتبليغ آخر رسالات السماء إلى الأرض، وكفى به شرفا، ولكنه لا يخرج النبي صلى الله عليه وسلم عن طبيعته البشرية إلى الطبيعة النورانية التي ادعاها بعضهم، وقد نهانا هو نفسه عن إطرائه والغلو فيه كما أطرت النصارى المسيح صلى الله عليه وسلم وغلت فيه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير