وبعدهم جاءت مظاهر غريبة للولاية من قبيل: عدم الاغتسال من الجنابة، وسقوط التكاليف الشرعية بحجة الوصول لمرتبة اليقين، وإتيان البهائم، أكرمكم الله، في الطرقات علانية، وعشق النسوان والمردان ......... إلخ من مظاهر الانحلال الأخلاقي التي اكتست بلحاء "الولاية" فلا تكون وليا حتى تجاهر بالفواحش، وتلابس النجاسات، وتترك الصلاة، وتجاهر بالفطر في رمضان لأن ذلك هو علامة الوصول!!!!!!، وفي "طبقات الشعراني" على سبيل المثال من ذلك الصنف من الكرامات الكثير.
وصاحب هذه الطوام ظهور مظاهر شركية، علقت المريدين بشيخ الطريقة في حياته، وبمقامه بعد وفاته، ولا زالت آثارها باقية إلى اليوم في كثير من بلاد العالم الإسلامي لاسيما بلاد كمصر وتركيا والمغرب العربي، فصرفت كثير من العبادات إلى أصحاب المقامات لما اشتبه على آحاد المسلمين، لاسيما أهل القرى والبوادي ممن تغلب عليهم السذاجة وضحالة العلم الشرعي: طوق النجاة من هذه المهلكات، الفرق بين: التوسل المشروع بأسماء الله وصفاته والأعمال الصالحة ودعاء الصالح الحي لا الميت بالتوسل غير المشروع، بطلب الشفاعة من الميت الذي زال عنه التكليف بموته بدعوى أن له جاها عند الله، عز وجل، يمكنه من قضاء حوائج العباد، مع أن الله، عز وجل، قد نفى ذلك عن أفضل خلقه: محمد صلى الله عليه وسلم في آيات من قبيل: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، فكيف يملك من دونه نفعا أو ضرا لأحد من العالمين، فضلا عن دعائهم المباشر والتوجه إليهم بسؤال الحاجات، في ظل غياب العلم الشرعي الصحيح وسكوت كثير من العلماء خوفا من ثورة العامة فإلى الله المشتكى!!!!
وبظهور الصحوة الإسلامية المعاصرة بدأ هذا الغلو في التقلص شيئا فشيئا، وإن كانت الغلبة لا زالت له في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فضلا عن أن كثيرا من أتباع الطرق الصوفية لم يتلبسوا بما تلبس به ابن عربي وأمثاله من بدع مغلظة، وإنما غاية ما هناك أنهم، وإن وقعوا في بعض الشركيات جهلا، يرون في التصوف الجانب الوجداني، الذي أشرت إليه في مداخلتك، وهو الجانب الذي تفتقده البشرية في عصرنا الحاضر في الشرق والغرب، والحق أحق أن يتبع.
الشاهد أن التصوف كحركة فكرية، كان له أثر بالغ في تشكيل وجدان المسلمين: سلبا وإيجابا.
فكان له إيجابيات لا سيما في أدواره الأولى، وقد أثنى كثير من المنصفين من خصوم التصوف المنحرف، كابن تيمية وابن القيم، على رجال تلك الأدوار الأولى، من أمثال الجنيد وبشر والكرخي والمحاسبي وذي النون ......... إلخ، وإن لم يوافقوهم على كل أقوالهم، بل وأثنوا على بعض المتأخرين ممن كانوا على منهج شيوخ الطريقة المتقدمين، وعلى رأسهم: الشيخ عبد القادر الجيلاني، رحمه الله، وهو أشهر من أن يذكر، وقد أشار ابن تيمية في مصنفاته لقصص وأقوال أثرت عن هذا الشيخ الجليل.
وكان لأتباعه دور بارز في حفظ بيضة الإسلام، لاسيما زمن بني عثمان، رحمهم الله، الذين رفعوا راية الجهاد حتى طرقت جيوشهم أبواب العاصمة النمساوية "فيينا"، وإن كان القوم، مع عظم شأنهم، لا يوافقون على ما تلبسوا به من بدع محدثة.
وظهرت بعض الحركات الجهادية الصوفية في المغرب العربي في القرن الماضي، وكان لها دور بارز في جهاد المحتل الفرنسي والأسباني والإيطالي.
وفي المقابل:
كان للتصوف سلبيات كثية لاسيما على معتقد الأمة، فظهرت الشركيات في طقوس الطرق الصوفية، وظهرت عقيدة الجبر التي خذلت الأمة عن جهاد أعدائها بحجة أن قدر الله، عز وجل، نافذ، فعلام الجهاد وإزهاق الأرواح وإفناء المهج؟!!!، وإنما سلط الأعداء علينا بذنوبنا!!، كما حصل أثناء الحملات الصليبية والزحف المغولي على المشرق الإسلامي، وكذا أيام الحملة الفرنسية على مصر، وأيام الاحتلال الأوروبي لدول المغرب العربي، فقد ظهرت الصوفية السلبية التي تدعو للاستسلام للمحتل وعدم حمل السلاح في مقابل الصوفية الجهادية التي تقدم ذكرها.
وفي عصرنا الحاضر:
تدعم حكومات الدول الإسلامية الطرق الصوفية بكل أنواع الدعم: أكاديميا وإعلاميا وماديا للوقوف في وجه الصحوة الإسلامية الراشدة، لأنها ترى في الأولى: صمام أمان لعروشها وامتيازاتها، وفي الثانية: عدوا يهددها، وإن كانت دعوته سلمية لا تهدد استقرار المجتمع المسلم.
بل ورأت الولايات المتحدة الأمريكية في التصوف، بمفهومه السلبي مفهوم: "مالناش دعوة"!!! كما يقال عندنا في مصر، رأت فيه: حليفا يستحق الدعم، فروجت له جنبا إلى جنب مع "الإسلام الأمريكي" موديل: 2007 م، الذي اختزل فيه الجهاد، حتى صار جهادا للدفاع عن الحياة!!!، وأما المعتقد فلا مكان له في قاموسه.
وعند الحديث عن التصوف لابد من التفريق بين الأفكار والأتباع، فكثير من إخواننا المسلمين قد غرتهم شعارات التصوف الجذابة التي تعزف على وتر الروحانيات مطلوب كل كائن حساس متحرك في الوجود، فمن منا لا تطرب أذنه لسماع قصيدة بارعة، أو رؤية صورة جميلة، أو وصل غانية حسناء، بغض النظر، إن كان ذلك السامع أو الناظر أو الواصل تقيا لا يستحل من ذلك إلا ما أحله الله، عز وجل، أو فاجرا يستحل كل ما يعرض له منها.
وعلى هذه الأوتار الإنسانية عزفت الصوفية، فلا عجب أن نرى بدع السماع، والأذكار المنغمة، والمدائح الملحنة التي تشبه ترانيم النصارى، بل وعشق صور النسوان والمردان، وتعاطي المخدرات التي تحلق بمتعاطيها في سماء الوهم، في الموالد والاحتفالات الصوفية لاسيما في القرى النائية كما هو الحال عندنا في كثير من قرى مصر الحبيبة.
والصوفية تستحق أن تفرد برسائل علمية تقوم عليها جهات متخصصة لعظم تأثيرها في تاريخ المسلمين الإنساني، فلا تكفي مثل هذه الأفكار المجملة في إصدار حكم عادل على هذه الظاهرة بما لها وما عليها.
عذرا على الإطالة مثنى.
والله أعلى وأعلم.
¥