وصدق أبو العباس بن تيمية، رحمه الله، لما قال، أيضا، ما معناه: إنه ما من مبتدع أو صاحب ضلالة يستدل لبدعته أو ضلالته بنص من كتاب أو سنة، إلا وفي نفس النص ما يرد بدعته.
فالقوم قد استدلوا بآية تصلح بعينها لرد بدعتهم في المسيح صلى الله عليه وسلم إذا خرجت على الوجه الصحيح المعروف من لغة العرب التي نزل بها الوحي.
وللفائدة، فقد حاول القوم، أيضا، التلبيس على المسلمين بنفس الآية في قوله تعالى: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)، فقالوا: عيسى صلى الله عليه وسلم: كلمة الله، وكلام الله، على قولكم أيها المسلمون: غير مخلوق، فيكون عيسى غير مخلوق، وهذا عين قولنا، فهو قديم قدم الذات الإلهية، ولما تصدى لهم المعتزلة ولم يحسنوا الرد، ألزمهم القوم بأحد أمرين:
إما أن يكون عيسى عليه الصلاة والسلام غير مخلوق لأنه هو الكلمة، والكلمة غير مخلوقة.
وإما أن يكون كلام الله، عز وجل، مخلوقا، فيكون عيسى، مخلوقا.
وكلاهما شر، فاختار المعتزلة، أهون الشرين، بقصور علمهم بلغة العرب فمعظم رؤوسهم أعاجم من أبناء الأمم التي قهرها الإسلام فلا دراية لهم بأساليب العرب في كلامها، وقالوا: إذن عيسى والقرآن، كلاهما، مخلوقان!!!!، مع أن لازم كلامهم أن ذات الباري، عز وجل، مخلوقة، لأن الكلام على الصفة فرع على الكلام على الذات، كما تقدم من كلام الخطابي رحمه الله، فإذا كانت الصفة غير مخلوقة، كما يقول أهل السنة في صفة الكلام ومنه القرآن، فالذات غير مخلوقة، وإذا كانت الصفة مخلوقة، ككلامنا المخلوق، فالذات مخلوقة تبعا له، كما هو حال ذواتنا.
والرد:
أن الكلمة هي: "كن"، فـ: عيسى صلى الله عليه وسلم خلق بـ: "كن" لا أنه هو نفسه: "كن"، وإنما أضيفت الكلمة إلى الله، عز وجل، إضافة الصفة إلى الموصوف، لأن الكلام، كما تقدم من كلام ابن تيمية لا يستقل بذاته فلا قيام له إلا بذات تتصف به، وقد عني بالكلمة هنا: نتيجتها أو مسببها، بالبناء للمفعول أو لما لم يسم فاعله، وهو: عيسى صلى الله عليه وسلم، وهو ما يعبر عنه البلاغيون بـ: إطلاق "السبب" وإرادة "المسبب"، بفتح الباء الأولى، فالسبب هنا هو: "كن"، والمسبب هو: "عيسى" صلى الله عليه وسلم.
وليس هذا، أيضا، بدعا من القول، إذ هو مما عرفته العرب واستعملته في كلامها، على وجه مشهور لا غرابة فيه، وقد جاء به التنزيل في مثل قوله تعالى:
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ)، إذ المعنى: كانا يأكلان الطعام فيعتريهما ما يعتري البشر من عوارض الأكل من: حدث وثقل بدن وفقر حاجة إلى القوت الذي تقوم به الأبدان، وهذا ما يتنافى مع ما ادعوه في المسيح وأمه من صفات الألوهية، إذ كيف يفتقر الرب الغني، لشيء من مخلوقاته فيأكل ويشرب ليقيم صلبه؟!!!!
فأطلق: "السبب" وهو: أكل الطعام، وأراد "المسبب" وهو: الحدث وثقل البدن والفقر والحاجة ........... إلخ من عوارض النقص البشرية التي يتنزه الباري، عز وجل، عنها.
ومن شعر العرب:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ******* بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
أي: أكلت الدية، إذ أطلق "السبب" وهو: الدم، أي: سفك الدم الموجب للدية، وأراد "المسبب": وهو الدية الواجبة لأولياء القتيل.
وهذا ما اصطلح البلاغيون على كونه: مجازا مرسلا، علاقته: السببية، كما أشار إلى ذلك الشيخ الشنقيطي، رحمه الله، في "مذكرة أصول الفقه"، فالدم سبب الدية على التفصيل السابق.
ومن ينكر المجاز، فإنه يقول بأن الكلام هنا على حقيقته، لأن إطلاق السبب وإرادة المسبب مما استعملته العرب في كلامها، فصار حقيقة متعارفا عليها بينهم، فلا حاجة للقول بالمجاز وعلاقاته العقلية التي تجهد الذهن في أمر قد عرفه المتكلم والسامع بادي الرأي.
وعلى كلا القولين، بغض النظر عن الترجيح بينهما، يصح البيت للرد على شبهة النصارى.
وعكسه: إطلاق "المسبب" وإرادة "السبب"، كما تقول: نكح فلان فلانة، أي: عقد عليها، فأطلق "المسبب" وهو: النكاح بمعنى ضم الجسد إلى الجسد في لقاء الزوجين، وأراد سببه وهو: الاستحلال بالعقد الذي يحمل معنى الضم، أيضا، وهو ضم كلمتي: الإيجاب والقبول إلى بعضهما، فهذا معنوي وذاك حسي.
الشاهد أن الرد على هذه الشبهة، التي تعتبر من أقوى شبه القوم، مرده إلى كلام العرب، وهذا ما يؤكد مجددا على أهمية معرفة كلام العرب وأساليبه واستعمالاته للذب عن الوحي الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أكد الشاطبي، رحمه الله، على هذا المعنى الجليل، حتى جعل بلوغ مرتبة الاجتهاد في معرفة لغة العرب، شرطا في بلوغ مرتبة الاجتهاد في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية إن لم تخني الذاكرة.
ولابن تيمية، رحمه الله، سفر نفيس يدعى: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، وهو أشهر من أن يذكر، وقد أتى فيه الرجل، كعادته، على شبه القوم، وكثير منها يتعلق بلغة العرب واستعمالاتها في نصوص الوحيين، فنسفها نسفا، حتى صار هذا الكتاب عمدة لمن أتى بعده في الرد على شبه القوم.
وعذرا على الإطالة أيها الكرام.
والله أعلى وأعلم.
¥