وفي آية الإسراء: استعمال: "من"، أيضا، لابتداء الغاية، وهي هنا غاية مكانية في قوله تعالى: (من المسجد الحرام)، أي أن: ابتداء الغاية المكانية للإسراء كان من المسجد الحرام، وانتهاءها كان إلى المسجد الأقصى.
الشاهد أن استعمال "من" لابتداء الغاية، ليس هو الآخر، بدعا من القول، بل إن بعض النحاة ادعى أن كل معاني "من" راجعة إليه، وإلى ذلك أشار ابن هشام، رحمه الله، في "المغني" بقوله:
"مِنْ:
تأتي على خمسة عشر وجهاً:
أحدها: ابتداء الغاية، وهو الغالب عليها، حتى ادعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه، وتقع لهذا المعنى في غير الزمان، نحو: (منِ المسجدِ الحرام)، (إنه من سليمانَ)، (فلا يقول عاقل بأن الكتاب الذي ألقي على بلقيس، رضي الله عنها، جزء من جسد سليمان عليه الصلاة والسلام!!!!)، قال الكوفيون والأخفش والمبرد وابن دُرُستُوَيه: وفي الزمان أيضاً بدليل: (منْ أوّل يوم)، وفي الحديث: (فمُطِرنا منَ الجمعة الى الجمعة) ". اهـ
بتصرف من "مغني اللبيب"، (1/ 331).
ومن تفسير ابن كثير رحمه الله:
وقال البخاري: حدثنا صَدَقَةُ بن الفضل، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عُمَيْر بن هانئ، حدثني جُنَادةُ بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنةَ حق، والنارَ حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". قال الوليد: فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عُمير بن هانئ، عن جُنَادة زاد: "من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء".
وكذا رواه مسلم، عن داود بن رُشَيد، عن الوليد، عن ابن جابر، به ومن وجه آخر، عن الأوزاعي، به.
فقوله في الآية والحديث: {وَرُوحٌ مِنْهُ} كقوله {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، [الجاثية: 13] أي: مِنْ خَلْقه ومن عنده، وليست "مِنْ" للتبعيض، كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة - بل هي لابتداء الغاية، كما في الآية الأخرى.
ومن "البحر المحيط" لأبي حيان الغرناطي رحمه الله:
"ومن هنا لابتداء الغاية، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أنّ عيسى جزء من الله تعالى، فرد عليه علي بن الحسين بن واقد المروزي حين استدل النصراني بأنّ في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله: وروح منه، فأجابه ابن واقد بقوله: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} وقال: إن كان يجب بهذا أن يكون عيسى جزءا منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض جزءا منه، فانقطع النصراني وأسلم". اهـ
والطريف أن زعيم النصارى في مصر قد استدل بنفس الآية، منذ عدة سنوات، في بدايات هذا القرن، على صحة مذهب النصارى في المسيح، صلى الله عليه وسلم، وقال بأن القرآن يشهد بصحة معتقدنا فعلام التفرق والاختلاف؟!!!!، ويبدو أنه ممن قرأ تفسير أبي حيان، رحمه الله، ولا جديد عند القوم، فشبه الكفار والمبتدعة واحدة منذ ظهر نور الإسلام والسنة فبدد ظلمة الكفر والبدعة.
وصدق الشاطبي، رحمه الله، لما قال كلاما معناه: إن القرآن حمال أوجه، بل إن النصراني قد يستدل لصحة مذهبه بآيات منه، فهو كتاب هداية لمن أراد الهدى، ومن أراد الضلال فلن يعدم وجها، ولو شاذا بعيدا يخرج عليه آي القرآن، بما يوافق هواه، كما هو مشاهد في تأويلات المتكلمين في مسائل الصفات، على وجه الخصوص، فتراهم يأتون بأوجه لغوية شاذة غريبة، لا تكاد تخطر على بال الحذاق من اللغويين، فضلا عن عموم المسلمين الذين نزل الوحي لهدايتهم، بألفاظ عربية ميسرة، مصداقا لقوله عز وجل: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)، فأبى القوم إلا أن يجعلوا آياته أشبه ماتكون بـ: "الألغاز والأحاجي" التي تخرج على أوجه، كما تقدم، لا يفطن إليها، كثير من الحذاق، فكيف تحصل الهداية والبيان وتقوم الحجة بهذا الإلغاز؟!!!!.
¥