و عبارة " تدور في مسامعه الألفاظ " عبارة جليلةٌ لها أثرٌ كبيرٌ في قوّة الفصاحة و البيان و الشعر؛ ذلك أنّ مَثَل الألفاظ مفردةً و مركبةً كمَثَل النّاس؛ فمنهم مألوفٌ و بعيدٌ غريبٌ؛ فالألفاظ التي تدور في الأسماع بهذا الوصف أشبه بالنّاس الذين طال إلفنا بهم و دامت صحبتنا لهم؛ حتى عرفنا خباياهم و زواياهم , فلا يجري في الخاطر أن يغيبوا عن الأذهان, و الألفاظ التي نهجرها فلا تدور في الخواطر و الأسماع أشبه بالنّاس الغرباء الذين لا نكاد نلتقي بهم؛ فوظيفة القراءة و إدمان المصاحبة لألفاظ الفصحاء و البلغاء و المجيدين من الشعراء = هي وظيفةُ تأليف و تعريف بيننا و بين تلك الألفاظ؛ فإذا استدعتها الذاكرةُ اللغويةُ حَضَرَتْ, و إذا أرادت النفسُ أن تعبُرَ بها إلى خباياها و غوامضِ مكنوناتها عَبَرَتْ, فجماعُ هذا الأمر كما ترون أن نخلق بيينا وبين الألفاظ الرفيعة البديعة هذا الإلفَ و المصاحبةَ؛ فكم مرَّ بنا معنًى استدعى لفظًا نعرفُه و نُنكرُه؛ نعرفُهُ لأنّه ماثلُ في النّفس و الحسِّ, لكنّنا ننكرُه لأنّنا لم نألفْه في تأليفنا للألفاظ, و لعلّ المؤلِّفَ إنّما سُمِّي مُؤلِّفًا لقدرته الفائقة على هذا التأليف بين الألفاظ و نفسِه , و بين الألفاظ في أنفسها؛ حتى إنّ الألفاظ و التراكيب لتحضرُ بين يديه, وتتكاثر عليه , حين يطلُبُها , دون أن يُجهدَ نفسَهُ في استدعائِها , فهذا هو فَرْقُ ما بين الفصيح المؤلِّفِ المطبوعِ و المتكلّفِ , و ما تجدهُ من وصفهم لكلامٍ بجريان مائه و سهولة مأخذه و وصفهم لغيره بضد ذلك.
وإنّ من أعظم أسباب قوة الآلة:
1 - إتقان علوم العربيّة؛ و هذا باب يطول شرحه؛ و هو لا يُحصّل إلّا بعلوّ الهمّة و الحرص على العلم و الصبر في طلبه؛ وعلى قدر العزم يكون القَسْم.
2 - إدمان صحبة كتب الأدب, ويكفي للمتعلّم منها أربعةٌ نصُّوا على كونها دواوين الأدب؛ قال ابن خلدون: "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، و هي أدب الكاتب لابن قتيبة، و كتاب الكامل للمبرد، و كتاب البيان والتبيين للجاحظ، و كتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبعٌ لها وفروعٌ منها".
3 - حفظ النصوص العالية البليغة و روايتها ,و إدمان تصفُّحِها والحفظ و الرواية أعظم شأنًا من إدامة التصفح؛ و برنامج ذلك لمن أراد التفصيل:
أ - حفظ القرآن الكريم, حفظًا متدبَّرا فيه ألفاظه و معانيه وطرق تأتّيه إلى المعاني و صور الأساليب فيه؛ فحفظه على هذا النحو يقوّي البيان, ويُطلِقُ اللسان, و يُجري تلك المذاهبِ و الأسالبِ العالية البديعة الرفيعة في طبع حافظه.
ب - حفظ ما يستيسرُ من أحاديث أفصح العرب محمدٍ صلى الله عليه و سلم؛ فقد بلغ الغاية في كلامِ فصحاء البشر؛ يقول صلى الله عليه و سلم: " أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش".
ت - حفظ الشعر المتفرّد من كلام الشعراء المتقدمين و المتأخرين, وقد ذكروا من بديع ما يُحقظُ و يُروى لهذا الغرض النبيل, و المقصد الجليل:
1 - معلّقات الجاهليين.
2 - اعتذاريات النابغة.
3 - حوليّات زهير.
4 - حماسات عنترة.
5 - أهاجي الحطيئة.
6 - نقائض جرير و الفرزدق.
7 - غزل متيّمي العرب.
8 - هاشميّات الكميت.
9 - مدائح البحتري.
10 - مراثي أبي تمام.
11 - افتخارات الشريف الرضي.
12 - روضيّات الصنوبري.
13 - زهديّات أبي العتاهية.
14 - خمريّات أبي نواس.
15 - سيفيّات المتنبي.
16 - روميّات أبي فراس.
فهذه أعظم مجموعات الشعر العربي فصاحةً و بيانًا؛ وقد قال بعض أهل الأدب ـ و النصُّ من الذاكرة , أُنسيتُ مكانَه و سأكون شاكرًا لمن دلّني على مصدره ـ: " من حفظ معلّقات الأدب, و أشعار متيمي العرب, و حماسيّات عنترة, و اعتذاريات النابغة, و حوليّات زهير, و زهديات أبي العتاهية, و مدائح البحتري, و مراثي أبي تمام, و روضيّات الصنوبري و خمريات أبي نواس, و روميات أبي فراس, و سيفيّات المتنبي؛ ثم لم يقُل الشعرَ فأبعَدَهُ الله ".
*****
الوصفةُ السحريّةُ السريعةُ للفصاحة
هي باختصار: اختصار للوصفة السابقة:):
1 - حفظ ما تيسّر من القرآن؛ بالشروط التي سبقت. و لنقل مثلا حفظ ثلث القرآن.
2 - حفظ قصيدة أو قصيدتين من أجود المجموعات التي تقدمت في (1 - 16).فيكون مجموع المحفوظ ست عشرة قصيدة, أو ضعفها.
3 - لا يكفي الحفط دون تدبّر المعاني, وإدمان مصاحبة معجم الألفاظ والتراكيب المحفوظة بمعانيها, و عقد الإلفِ بينك و بينها , و التدرّب على استعمالها في الكلام الفصيح, وتمثّل السياقات التي تُستعمل فيها.
فهذا قمنٌ ـ بإذن الله ـ بعد مراعاة مقتضى الحال, و مناسبة الكلام للمقام, و حسن النسق و تعاطف الكلام, أن يصنع فصيحًا قويّ البيان, بليغ اللسان.
ـ[د. عليّ الحارثي]ــــــــ[11 - 11 - 2008, 02:28 ص]ـ
ما رأيكم في أنْ أورِّطًكُم في تنفيذ الوصفة السريعة:)؟
¥