وقال يوسف بن الحسين: حضرت مع ذي النون مجلس المتوكل، وكان مولعا به، يفضله على الزهاد، فقال: صف لي أولياء الله. قال: يا أمير المؤمنين، هم قوم ألبسهم الله النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من إرادة كرامته، ووضع على مفارقهم تيجان مسرته. فذكر كلاما طويلا.
وقد استوفى ابن عساكر أحوال ذي النون في "تاريخه"، وأبو نعيم في "الحلية". ومن كلامه: العارف لا يلتزم حالة واحدة؛ بل يلتزم أمر ربه في الحالات كلها.
أرَّخ عبيد الله بن سعيد بن عفير وفاته، كما مر، في سنة خمس وأربعين ومائتين.
وأما حيان بن أحمد السهمي، فقال: مات بالجيزة، وعُدي به إلى مصر في مركب خوفا من زحمة الناس على الجسر، لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة ست وأربعين ومائتين. وقال آخر: مات سنة ثمان وأربعين.
والأول أصح. وكان من أبناء التسعين.
تواتر عنه
أنه قال: بينما أنا في بعض الفيافي والقفار، أطوف، وإذا بغلام قد انتقع لونه ونحل جسمه، يتلألأ نور الخدمة بين عينيه، وينطق آثار القبول من بين وجنتيه، وعلى وجهه سمت الطاعة والمجاهدة، وهيأة المؤانسة والمشاهدة، وعليه طمران، وعلى بدنه جبّة صوف متفتقة الأكمام والذيول، وعلى أحد كميّه مكتوب: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء36]. وعلى الكم الآخر مكتوب: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور 24]. وعلى أذيالها مكتوب: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16]. وعلى ظهرها مكتوب: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة 18].
وعلى رأسه مكتوب:
حبّ مولاي بلائي ... حيث مولاي دوائي
فما رأيت أنظف من طمرين كانا عليه، فتهيأت لخطابه، ثم دنوت منه بعد ساعة، فقلت: السلام عليك يا عبد الله، فقال: السلام عليك يا ذا النون، فقلت له: ومن أين عرفتني يا أخي؟! فقال: اطلعت حقائق الحق من ضميري على مكنون ضميرك، فشاهد صفاء معرفتك في غياهب غيوب همتك، فتناطقا وتعانقا، فعرّفني أنك ذو النون المصري.
فقلت له: يا أخي ما هي ابتداء المحبة؟ ?
فقال: الاعتبار بهذه الآية التي تراها وتسمعها، وأشار إلى المكتوبة على طمريه، فقلت له يا أخي وما انتهاء المحبة، فقال: يا ذا النون محبوب بلا انتهاء ومحبته بانتهاء محال، فقلت له: يا أخي الزهد في الدنيا طلب للعقبى، أم طلب للمولى؟
فقال: يا ذا النون، الزهد في مخلوق لطلب مخلوق آخر خسران، وإنما يصلح الزهد في الدنيا المخلوقة لطلب المولى الخالق.
يا ذا النون، صغرت همة عبد رضيت من محبوب قديم بجنة مخلوقة. إنما معنى الزهد: التجنّب عن الأغيار، وتتبع الأخيار، ومشاهدة الآثار لوجود الملك الجبار، فمن طلب الأغيار، فمطلوبه مشهوده، ومن طلب الجبار، فمطلوبه محبوبه، فالمخلوق إذا رضي بمخلوق مثله، فالمشاكلة مقصودة.
يا أخي ذا النون: الدّون كل الدّون والمغبون كل المغبون من هجر لذة الكرى والهوى، وأبغض طيب الدنيا، ثم رضي بدون المولى، وكدّ نفسه وهجر دنياه، رهبة أن تكون النار مثواه، أو رغبة أن تكون الجنة مأواه.
فقلت له: يا أخي: تصبرون في هذه الفيافي والمهالك المقحطة بلا زاد؟.
فغضب، وقال: يا بطّال، ما هذا الاعتراض على من لم يطلعك على حاله، ولا يأتمنك على سره، أما أمرنا في حال المأكول والمشروب، فهكذا، فوكز برجله اليمنى الأرض، فإذا بعين من سمن وعسل، فأكل وأكلت معه، ثم وكز الأرض برجله اليسرى فإذا بعين من الماء أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، فشرب وشربت معه، وردّ الرمل عليهما، فعادت الأرض كما كانت، كأن لم يكن بها شيء قط، ثم ولى عني وتركني، فبقيت باكيًا، ومما عاينت متعجبًا، رضي الله عنه ونفعنا بأمثاله.
من كلمات ذي النون رحمه الله قوله:
(لله عباد تركوا الذنب استحياءً من كرمه، بعد أن تركوه خوفاً من عقوبته.
ولو قال لك: "اعمل ما شئت، فلست آخذك بذنب" كان ينبغي أن يزيدك كرمه استحياءً منه، وتركاً لمعصيته. إن كنت حراً كريماً عبداً شكوراً. فكيف وقد حذرك؟!)
لله درك ورحمة الله عليك.
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[28 - 08 - 2008, 02:32 ص]ـ
لي وقفات مع ماكتبت
جزيت خيراً
ـ[أبو همام الطنطاوي]ــــــــ[28 - 08 - 2008, 03:48 ص]ـ
وأنا أسجل اعتراضا شديدا لكثير مما نقلت
غفر الله لنا ولكم
ـ[نُورُ الدِّين ِ مَحْمُود]ــــــــ[28 - 08 - 2008, 04:49 ص]ـ
لي وقفات مع ماكتبت
جزيت خيراً
جزانا الله وإياكم اخيتي الكريمة
وفي انتظارك
ـ[نُورُ الدِّين ِ مَحْمُود]ــــــــ[28 - 08 - 2008, 04:52 ص]ـ
وأنا أسجل اعتراضا شديدا لكثير مما نقلت
غفر الله لنا ولكم
شكراً لك على جميل دعائك
أخي الكريم لك الحق
في الاعتراض كما تشاء
ولي الحق كذلك في
معرفة أوجه اعتراضك
لم تعترض وفيما تعترض
بالحجة الكافية لتعم
المنفعة على الجميع
فهذا هو عين البيان
في انتظار حجتك وبرهنتك
الاعتراضية
وبورك فيك واعزك الله
وهدانا وإياك وكل المُسلمين
¥