فالصيغة الصريحة نحو:
سبب نزول هذه الآية كذا، أو: سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن كذا فأجاب بكذا.
والصيغة المحتملة نحو:
نزلت هذه الآية في كذا، ويكون مقصود القائل: نزلت في حكم كذا، و: أحسب هذه الآية نزلت في كذا ................ إلخ من الصيغ المحتملة.
فمن أمثلة صيغة: "نزلت هذه الآية في كذا":قول ابن عمر رضي الله عنهما: "أنزلت: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) في إتيان النساء في أدبارهن". أخرجه البخاري.
أي أن الآية أفادت بمفهومها النهي عن إتيان النساء في أدبارهن، لا جوازه، كما أخطأ من أخطأ في نسبة ذلك إلى ابن عمر، رضي الله عنهما، فإن الحرث لا يكون إلا في موضع الإنبات، والولد إنما ينبت في الرحم، والدبر ليس مسلكا إليه.
فدلت الآية بمنطوقها على حل إتيان النساء في موضع الحرث، وحرمة إتيانهن في الدبر، لأنه، كما تقدم ليس بموضع إنبات.
وخرجه بعض أهل العلم على إتيان النساء في مواضع الحرث من أدبارهن، وهو ما اعتاده رجال قريش، واستنكرته نساء الأنصار لما تزوجوا منهن.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"وهذا محمول على ما تقدم، وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها، لما رواه النسائي أيضًا عن علي بن عثمان النفيلي، عن سعيد بن عيسى، عن المفضل بن فضالة عن عبد الله بن سليمان الطويل، عن كعب بن علقمة، عن أبي النضر: أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر: إنه قد أكثر عليك القول: إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال: كذبوا علي، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده، حتى بلغ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال: يا نافعُ، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت:لا. قال: إنا كنا معشر قريش نُجبِّي النساء، (أي نأتيهم في مواضع الحرث من خلفهن)، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار، أردنا منهن مثل ما كنا نريد فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود، إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. وهذا إسناد صحيح".
فالصيغة تحتمل أن هذا هو سبب النزول فعلا، كما في رواية النسائي، وتحتمل أن حكم ذلك الفعل داخل في حكمها كما في رواية البخاري رحمه الله.
ومن أمثلة صيغة: أحسب هذه الآية نزلت في كذا:
حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ فَأَبَى عَلَيْهِ فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ أَسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.
*****
ومن مسائل هذا الباب:
مسألة تعدد الروايات في سبب النزول:أولا: إذا لم تكن الصيغ كلها صريحة: حملت كلها على أنها داخلة في حكم الآية، إلا إذا قامت قرينة على أن أحدها هو سبب النزول.
وثانيا: إن تعارضت صيغتان:
إحداهما: غير صريحة كأثر ابن عمر، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ): نزلت في إتيان النساء في أدبارهن، أي: في بيان تحريم إتيانهن في أدبارهن كما تقدم آنفا.
¥