وبذلك رد على الشافعي، رحمه الله، الذي استدل بقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ)، على أن قصر الصلاة في السفر: مباح، فيكون الإتمام أولى، عملا بالأصل، فرفع الجناح هنا، أيضا، لا يستفاد منه مجرد الإباحة، وإنما القصر: سنة مؤكدة، بل قد أوجبه بعض أهل العلم كالأحناف والظاهرية، رحمهم الله، وقال بعض أهل العلم بكراهة الإتمام في السفر، وذلك مشعر برجحان جانب القصر رجحانا يزيد على جانب الإباحة المستفاد، بادي الرأي، من قوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا).
ومثل سبب النزول في الآيات: سبب الورود في الأحاديث، فإن معرفة سبب ورود الحديث يعين على فهمه فهما صحيحا، كما في حديث: (لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ)، فإن عمومه، بادي الرأي، دون نظر إلى سبب وروده: يرجح حرمة الصوم في السفر مطلقا، لأن نفي البر عن الصوم في السفر يعني إثبات الإثم له، وهذا قول الظاهرية، رحمهم الله، ولكن سبب الورود في حديث: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا فَقَالُوا صَائِمٌ فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ.
خص نفي البر بصورة من يشق عليه الصوم في السفر، فدل بمفهومه على أنه لا حرج في صوم من لا يشق عليه الصوم في السفر، كما في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه وفيه: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أَصُومُ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ.
والعبرة كما تقدم: بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن قد ترد بعض الصور التي يرجح فيها خصوص السبب على عموم اللفظ، كما في:
قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى):
فإن "أل" في "الأتقى" في قول بعض أهل العلم: عهدية ذهنية تشير إلى معهود بعينه هو: الصديق، رضي الله عنه، لأن "أل" الداخلة على اسم التفضيل: عهدية لا تفيد عموما، فضلا عن معنى العهد المتحقق ابتداء في اسم التفضيل فهو مشعر باختصاص الموصوف به بمزيد وصف، إذ التفضيل: وصف وزيادة، والزيادة لا تكون إلا لمفضل بعينه على بقية أفراد الجنس.
يقول الحافظ السيوطي رحمه الله:
"أما آية نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعاً كقوله تعالى: "سيجنبها الأتقى الذي يؤتى ما له يتزكى"، فإنها نزلت في أبي بكر الصديق بالإجماع، وقد استدل بها الإمام فخر الدين الرازي مع قوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) على أنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووهم من ظن أن الآية عامة في كل من عمل عمله إجراء له على القاعدة، وهذا غلط، فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم، إذ الألف واللام إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع، زاد قوم: أو مفرد بشرط أن لا يكون هناك عهد، واللام في الأتقى ليست موصولة لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا ً، فبطل القول بالعموم وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه رضي الله عنه". اهـ
وقال بعضٌ آخر: هي على عمومها، فتعم كل الأفراد الذين تتحقق فيهم الأوصاف المذكورة.
وجمع الحافظ ابن كثير، رحمه الله، بين القولين بقوله:
"وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقًا تقيًا كريما جوادًا بذالا لأمواله في طاعة مولاه، ونصرة رسول الله". اهـ
فهي عامة من وجه: عموم ألفاظها، خاصة من وجه: اختصاص الصديق، رضي الله عنه، بالسبق إلى الأوصاف المذكورة، فهو أكمل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
*****
ومن مسائل هذا الباب:
صيغة سبب النزول:
¥