ولكن يشكل على ذلك: أن السورة مكية، كما أشار إلى ذلك الزركشي رحمه الله، وأن حقيقة "التزكي" اللغوية أعم من حقيقتها الاصطلاحية، فالتزكي لغة: النماء والتطهر مطلقا، والزكاة الاصطلاحية: إعطاء جزء من النصاب إلى مستحق غير متصف بمانع شرعي يمنع من الصرف إليه، كأن يكون أحد أصوله: كأب ونحوه، أو أحد فروعه: كابن ونحوه.
فإخراج جزء من النصاب: تطهير وتنمية له، وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ........... ) الحديث.
ولكنه تطهير خاص حده الشارع، عز وجل، بشروط، وأصناف ومقادير وأنصبة بعينها ......... إلخ، وحمل الحقيقة اللغوية العامة على الحقيقة الشرعية الخاصة في هذا الموضع يفتقر إلى دليل مرجح، نعم قد يدخل من جهة عموم المعنى، ولكن دعوى اختصاص اللفظ بالمعنى الشرعي دعوى تفتقر إلى الدليل، لأنه لم يكن هناك زكاة فطر بمكة أصلا، وقول ابن عمر، رضي الله عنه، يمكن تخريجه على كونه: تفسيرا للعام بذكر بعض أفراده، فيكون ابن عمر، رضي الله عنهما، قد ذكر فردا من أفراد عموم التطهير والتزكية، وهو الزكاة الشرعية، على جهة: ضرب المثل لتقريب المعنى، لا تخصيص اللفظ بذلك المثل بعينه، فقد تقرر أن: ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، ونظير ذلك:
قوله تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .............. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فقد جاء في سبب نزولها: أن الحارث بن سويد، رضي الله عنه، ارتد زمن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم عاد إلى الإسلام مرة أخرى، فنزلت هذه الآية فيه.
يقول القرطبي رحمه الله:
"ثم استثنى التائبين فقال: (إلا الذين تابوا) هو الحارث بن سويد كما تقدم. ويدخل في الآية بالمعنى كل من راجع الإسلام وأخلص". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (4/ 114).
فلا يعني نزول الآية في الحارث بن سويد، رضي الله عنه، أن عمومها مقصور عليه، بل هو كعموم الحقيقة اللغوية يشمل جميع أفراده، وذكر بعض أفراده لا يخصصه كما تقدم.
*****
ومن مسائل هذا الباب:
مسألة: تعدد ما نزل في شخص واحد:
ومثاله ما رواه البخاري، رحمه الله، من طريق: محمد بن يوسف قال: حدثنا إسرائيل قال: حدثنا سماك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال: نزلت في أربع آيات من كتاب الله تعالى:
كانت أمي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا).
والثانية: أني كنت أخذت سيفا أعجبني، فقلت: يا رسول الله، هب لي هذا، فنزلت: (يسألونك عن الأنفال).
والثالثة: أني مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني أريد أن أقسم مالي، أفأوصي بالنصف؟ فقال: «لا»، فقلت: الثلث؟ فسكت، فكان الثلث بعده جائزا.
والرابعة: إني شربت الخمر مع قوم من الأنصار، فضرب رجل منهم أنفي بلحي جمل، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عز وجل تحريم الخمر.
وذكر الشيخ مناع القطان، رحمه الله، في "مباحث في علوم القرآن"، موافقات عمر، رضي الله عنه، كمثال لهذا النوع، إذ كل ما نزل موافقا لقول عمر، رضي الله عنه، يصح أن يقال بأنه قد نزل فيه، فيكون النازل متعددا في حق شخص بعينه وهذه صورة المسألة.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 09 - 2008, 08:40 ص]ـ
ومع مسألة: جمع القرآن:
والأصل فيها حديث زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
¥