وقد استبعد بعض أهل العلم المعاصرين، كالشيخ مناع القطان رحمه الله، ذلك، وقال بأن تقدم نزولها يكفي في الاستشهاد بها لاحقا إذا ما جد ما يستدعي ذلك دون حاجة إلى تكرار نزولها، تماما كما يستدل المجتهد بنص في مسألة ثم يستدل بنفس النص في مسألة أخرى ولا يقال بأنه استدل بنص جديد، بل النص واحد، وإن اختلف وجه الاستدلال في كلا المسألتين.
وإذا تساوت الروايات في القوة جمع بينها، فيكون النازل الواحد قد تقدمه أكثر من سبب، كما في حديث قذف هلال بن أمية امرأته بشريك بن سحماء، وحديث عويمر العجلاني، فكلاهما نص في سبب نزول آيات اللعان، ولا وجه للترجيح بينهما سندا أو متنا، فجمع بينهما بوقوع حادثة هلال أولا، ثم سؤال عويمر بعده.
قال في "الإتقان":
"جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضاً فنزلت في شأنهما معاً، وإلى هذا جنح النووي وسبقه الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد. وأخرج البزار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلاً ما كنت فاعلاً به؟ قال: شرا ً، قال: فأنت يا عمر؟ قال: كنت أقول: لعن الله الأعجز وإنه لخبيث، فنزلت. قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب". اهـ
والجمع جار على أصل: "إعمال الأدلة خير من إهمالها".
*****
ومن مسائل هذا الباب:
تعدد النزول مع وحدة السبب:
فقد يتعدد ما ينزل والسبب واحد، فينزل في الواقعة الواحدة عدة نجوم قرآنية، ومثال ذلك:
حديث أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله عز وجل: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض).
والحديث عند الحاكم، رحمه الله، في "مستدركه".
وحديث أم سلمة، رضي الله عنها، أيضا: مَا لَنَا لَا نُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ قَالَتْ فَلَمْ يَرُعْنِي مِنْهُ يَوْمًا إِلَّا وَنِدَاؤُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَالَتْ وَأَنَا أُسَرِّحُ رَأْسِي فَلَفَفْتُ شَعْرِي ثُمَّ دَنَوْتُ مِنْ الْبَابِ فَجَعَلْتُ سَمْعِي عِنْدَ الْجَرِيدِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}
والحديث عند أحمد، رحمه الله، في "مسنده".
وحديث أم سلمة، رضي الله عنها، أيضا: تغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث؟، فأنزل الله عز وجل: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا).
والحديث عند الحاكم، رحمه الله، في "مستدركه".
فالسبب واحد والنازل متعدد.
*****
ومن مسائل هذا الباب ما اصطلح أهل العلم على تسميته بـ:
تقدم نزول الآية على الحكم:
وقد أشار إليه "الزركشي"، رحمه الله، في "البرهان" بقوله:
"واعلم أنه قد يكون النزول سابقا على الحكم وهذا كقوله تعالى: (قد أفلح من تزكى) فإنه يستدل بها على زكاة الفطر روى البيهقي بسنده إلى ابن عمر أنها نزلت في زكاة رمضان ثم أسند مرفوعا نحوه وقال بعضهم: لا أدرى ما وجه هذا التأويل لأن هذه السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة. وأجاب البغوي في تفسيره: أنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم كما قال: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد)، فالسورة مكية وظهر أثر الحل يوم فتح مكة حتى قال عليه السلام: أحلت لي ساعة من نهار.
وكذلك نزل بمكة: (سيهزم الجمع ويولون الدبر)، قال عمر بن الخطاب: كنت لا أدري أي الجمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) ". اهـ
فصيغة الآية: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى): تحتمل أن المقصود بها: زكاة الفطر، وقد استأنس بها بعض أهل العلم في مسألة: تقديم زكاة الفطر على صلاته، لأن الله، عز وجل، ذكر الزكاة أولا، ثم الصلاة ثانيا.
¥