قال غيره: قيل سبعة، وقيل أربعة وهو الأكثر، ووجه بها إلى الآفاق، فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات، فاتخذها قراء الأمصار معتمد اختياراتهم، ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه، وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم فذلك لأن كلا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه، إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح، وأن القراء بكل منها جائزة.
قال ابن عطية: ثم إن عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق أو تخرق، تروى بالحاء غير منقوطة وتروى بالخاء على معنى ثم تدفن، ورواية الحاء غير منقوطة أحسن". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 68، 69).
فكل ما حوته هذه المصاحف قد تواتر نقله، فجازت القراءة به، لتوفر شروط القراءة المتواترة فيه، وهي التي أشار إليها الناظم بقوله:
وكل ما وافق وجها نحوي ******* وكان للرسم احتمالا يحوي
وصح إسنادا هو القرآن ******* فهذه الثلاثة الأركان
ولا يرد على هذا التواتر، ما ادعاه بعض المبتدعة من جواز نقل القرآن بخبر الواحد عن الواحد مستدلين بقبول زيد، رضي الله عنه: خبر خزيمة، رضي الله عنه، عن آخر آيتين في سورة براءة، ليحتجوا بذلك على جواز الوصية لفرد بعينه، فهو بمنزلة خبر الآحاد الذي ينقله الإمام إلى من بعده.
والجواب:
أن الآية قد ثبتت بالإجماع لا بشهادة خزيمة، رضي الله عنه، وحده، فشهادته على أنها قد كتبت بين يدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا على أنها قد نزلت، فإنه لم يكن الوحيد الذي يحفظها ليصح قبول خبر الواحد في نقل القرآن، وإنما كان يحفظها آخرون غيره، منهم زيد بن ثابت، رضي الله عنه، نفسه، وإنما انفرد خزيمة عنهم بكونها لم توجد مكتوبة إلا عنده، فكلامهم يصح لو كان خزيمة قد انفرد عنهم بحفظها، فحفظ ما لم يحفظوه، فلم توجد محفوظة إلا عنده، وهذا بين البطلان بأدنى تأمل.
يقول القرطبي رحمه الله:
"وقد طعن الرافضة - قبحهم الله تعالى - في القرآن، وقالوا: إن الواحد يكفي في نقل الآية والحرف كما فعلتم فإنكم أثبتم بقول رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت وحده آخر سورة "براءة" وقوله: "من المؤمنين رجال".
فالجواب: أن خزيمة رضي الله عنه لما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة، وقد كان زيد يعرفهما، ولذلك قال: فقدت آيتين من آخر سورة "التوبة".
ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا أو لا، فالآية إنما ثبتت بالإجماع لا بخزيمة وحده". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 70).
وكان هذا الجمع في حدود سنة 25 هـ، وقد امتاز هذا الجمع بأمور منها:
أولا: اختيرت اللجنة اختيارا موفقا من الأنصار والمهاجرين، وكان نصيب قريش فيها كبيرا لأن القرآن نزل بلغة قريش كما قال عثمان. وأفرادها من الصلاح والحفظ والمعرفة بمكان كبير، ومع ذلك فقد كانت لا تدخر وسعا في السؤال والبحث والتثبت ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وكان أفرادها يحفظون القرآن في صدورهم.
ولا بد من التنبيه إلى أن أحد أعضائها وهو: زيد بن ثابت هو الذي قام بالجمع في المرة الأولى أيام أبي بكر الصديق.
ثانيا: جردت المصاحف مما ليس قرآنا كالشروح والتفاسير التي كان يثبتها بعض الصحابة على مصاحفهم، (وهي القراءات التفسيرية من قبيل قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالحة غَصْبًا).
ثالثا: اعتمدت اللجنة على صحف أبي بكر، رضي الله عنه، اعتمادا رئيسيا، حيث جعلتها الأصل، ثم استعملت كل ما أمكنها من وسائل التثبت والاستيثاق.
رابعا: كتب القرآن بشكل يجمع القراءات التي نزل بها القرآن، وقد ساعد على ذلك عدم التشكيل وعدم التنقيط.
خامسا: استطاعت هذه اللجنة أن تنجح في عملها خير نجاح، فلقد حسمت هذه المصاحف الخلاف، وحالت دون فرقة المسلمين حول كتاب الله الخالد الكريم.
"لمحات في علوم القرآن واتجاهات المفسرين"، للشيخ الدكتور محمد بن لطفي الصباغ، ص114، 115.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، ملخصا ما سبق:
¥