تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتجدر الإشارة في هذا الموضع إلى عدة نقاط منها:

أن اختيار زيد بن ثابت، رضي الله عنه، لهذه المهمة الجليلة دون من عداه، لم يكن مصادفة، وإنما وقع الاختيار عليه لأنه شهد العرضة الأخيرة التي بُيِن فيها الناسخ من المنسوخ، وإلى ذلك أشار السيوطي، رحمه الله، في "الإتقان" في آخر النوع السادس عشر بقوله: "وقال البغوي في شرح السنة: يقال إن زيد ابن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نسخ وما بقي وكتبها الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر وجمعه، وولاه عثمان كتب المصاحف" اهـ.

ولذلك لم يتم اختيار أمثال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لهذه المهمة الجليلة، لأن مصاحفهم كانت تخالف العرضة الأخيرة في بعض المواضع التي نسخت ولم يبلغهم نسخها، فضلا عن كون ابن مسعود، رضي الله عنه، هذليا، كما تقدم، والقرآن إنما نزل بلغة قريش، ولذا جعل عثمان، رضي الله عنه، المحكمة من قريش وهم: عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأمر أن يُكْتَب ما اختلفوا فيه مع زيد بلسانهم لأنهم قرشيون والقرآن إنما نزل بلسانهم كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من موضع.

وجمع المصحف في حد ذاته من المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشارع، عز وجل، باعتبار أو إلغاء، وإنما اقتضت المصلحة في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عدم جمعه لأن الوحي كان ينزل باستمرار فلو جمع في مصحف واحد لأفضى ذلك إلى تغييره كلما نزل قرآن جديد أو نُسِخ قرآن سابق، وإلى ذلك أشار السيوطي، رحمه الله، في "الإتقان" في أول النوع الثامن عشر بقوله:

"قال الخطابي: إنما لم يجمع صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر". اهـ

وبعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم اقتضت المصلحة جمعه، خشية ضياعه بمقتل حامليه، وفي هذا رد على من قال بأن هذا الجمع: بدعة، لأنه لم يقع في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فليس مجرد عدم وقوع الفعل في زمن الرسالة كافيا للحكم عليه بأنه بدعة، وإنما ضابط ذلك: هل دعت الحاجة إليه في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عدم وجود المانع أم لا، فإذا وُجَد الداعي إلى فعل أمر ما في زمن الرسالة وانتفت موانعه، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو: بدعة، بخلاف مسألة كمسألة: جمع القرآن، فلم تكن هناك حاجة لجمعه والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حي يتنزل عليه الوحي، والمانع قائم لأن الوحي يتنزل باستمرار فجمعه مفض إلى تكرار التغيير بتكرار التنزيل كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

يقول ابن تيمية رحمه الله: "وهكذا جمع القرآن، فإن المانع من جمعه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوحي كان لا يزال ينزل، فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد. فلو جمع في مصحف واحد، لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت، فلما استقر القرآن بموته، واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم، والمقتضي للعمل قائم بسنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعمل المسلمون بمقتضى سنته، وذلك العمل من سنته، وإن كان يسمى في اللغة بدعة، وصار هذا كنفي عمر رضي الله عنه ليهود خيبر، ونصارى نجران، ونحوهما من أرض العرب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك في مرضه، فقال: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة، وشروعه في قتال فارس والروم وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم، فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة، كما قال له اليهود: كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم وكما جاءوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته، فأرادوا منه إعادتهم، وقالوا: كتابك بخطك فامتنع من ذلك، لأن ذلك الفعل كان بعهد رسول الله صلى الله عليه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير