وذهب النظام "من المعتزلة"، ومن تابعه، كالمرتضى، من الشيعة، إلى القول بأن إعجاز القرآن كان بـ: "الصرفة"، ومعناها: أن الله قد صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها، وهذا قول لا شك في بطلانه، وممن تصدى للرد عليه:
• شيخ الإسلام، رحمه الله، حيث قال في "الجواب الصحيح": "فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته لا يقدرون على ذلك ولا يقدر محمد نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر كما قد أخبر الله به في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
وأيضا فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة لكنهم يحسون من أنفسهم العجز عن المعارضة ولو كانوا قادرين لعارضوه وقد انتدب غير واحد لمعارضته لكن جاء بكلام فضح به نفسه وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله مثل قرآن مسيلمة الكذاب كقوله: يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين.
وكذلك أيضا يعرفون أنه لم يختلف حال قدرتهم قبل سماعه وبعد سماعه فلا يجدون أنفسهم عاجزين عما كانوا قادرين عليه كما وجد زكريا عجزه عن الكلام بعد قدرته عليه". اهـ
ولما طلب أصحاب الفيلسوف الكندي منه أن يعارض القرآن قال بصلف وكبر الفلاسفة المعروف: نعم أعمل مثل بعضه!!!!، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت، فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا.
قال في "مختصر المعارج" معلقا: "وهذا الذي قاله الفيلسوف مقدار فهمه ومبلغ علمه، وإلا فبلاغة القرآن فوق ما يصف الواصفون".
ولما استقرأ الصديق، رضي الله عنه، أصحاب مسيلمة بعض قرآنه فقرؤوا عليه شيئا منه، قال: "ويحكم!! أين يذهب بعقولكم؟!! إن هذا كلام لم يخرج من إل" أي من رب.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فاستفهم استفهام المنكر عليهم لفرط التباين وعدم الالتباس وظهور الافتراء على هذا الكلام وأن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم بمثل هذا الهذيان". اهـ
"شرح العقيدة الأصفهانية"، ص403.
ومن باب التنزل مع الخصم، ذكر شيخ الإسلام، رحمه الله، أن مجرد صرفهم عن الإتيان بمثله: معجز، فإن صرف قدرتهم عن الإتيان بمثله مع قيام الداعي إلى ذلك، دليل على صدق الوحي المنزل.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
"فإن كانوا قادرين ولم يعارضوه بل صرف الله دواعي قلوبهم ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد فهذا من أبلغ الخوارق.
وإن كانوا عاجزين ثبت أنه خارق للعادة فثبت كونه خارقا على تقدير النقيضين النفي والإثبات فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر. فهذا غاية التنزل". اهـ
• وتصدى أبو بكر الباقلاني رحمه الله، في "إعجاز القرآن"، للرد على القول بالصرفة فقال: "ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا، وإنما يكون المنع هو المعجز، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه".
• وتصدى له الحافظ السيوطي رحمه الله، في الإتقان، فأجاد، حيث لخص الرد في أربع نقاط:
o أولا: قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن …)، يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لإجتماعهم، لأنهم عندئذ يكونون كالموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره.
o ثانيا: أن العلماء أجمعوا على أن الإعجاز مضاف إلى القرآن، فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز؟ بل المعجز حينئذ، هو الله سبحانه وتعالى، حيث سلبهم القدرة.
¥