والخامس: الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدوه به من قصص أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم - وهو أمي من أمة أمية، ليس لها بذلك علم - بما عرفوا من الكتب السالفة صحته، فتحققوا صدقه.
قال القاضي ابن الطيب، (وهو القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله): ونحن نعلم ضرورة - أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار، وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى المتعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.
والقول بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد تلقى هذه الأخبار عن بحيرى الراهب: ضرب من الهذيان!!!، إذ لم يلازمه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ملازمة الطالب شيخه، وإنما التقاه عرضا، وهو شاب يافع في رحلته الأولى مع عمه أبي طالب، والقصة مشهورة في كتب السير.
والسادس: الوفاء بالوعد، المدرك بالحسن في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم:
إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله عليه السلام، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه.
وإلى وعد مقيد بشرط، كقوله: "ومن يتوكل على الله فهم حسبه"، و: "ومن يؤمن بالله يهد قلبه"، و: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا"، و: "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مائتين" وشبه ذلك.
والسابع: الإخبار عن المغيبات في المستقبل التى لا يطلع عليها إلا بالوحي فمن ذلك: ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق" الآية. ففعل ذلك. وكان أبو بكر رضى الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه، ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنَجْح، وكان عمر يفعل ذلك: فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا، برا وبحرا.
وقد بشر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المسلمين يوم الخندق، وقد اشتد حصار المشركين لهم، بكنوز قيصر وكسرى واليمن.
والثامن: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام، في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام.
وهذا هو: وجه الإعجاز التشريعي للقرآن الكريم، فقد جاء بشريعة كاملة في العبادات والمعاملات، في السلم والحرب، في تنظيم العلاقة بين العبد وربه جل وعلا، في تنظيم العلاقة بين أفراد الجماعة المسلمة، في تنظيم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع الإسلامي سواء أكانوا من رعايا الدولة المسلمة أم من الوافدين عليها من سفراء أو تجار أو صناع ........ إلخ وهو ما يعرف بـ "القانون الدولي الخاص" وهو ما نجح المحتل في مصر في ضربه بإنشاء ما عرف آنذاك بـ "المحاكم المختلطة" التي تكفل للدولة المحتلة مقاضاة رعاياها على أرض الدولة المحتلة وفق قوانينها هي لا قوانين الدولة المحتلة بغض النظر عن كونها سماوية منزلة أو أرضية مستحدثة ولعل ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية الآن في العراق هو أكبر مثال على هذا الانتهاك الصارخ فهي تكفل لجنودها البغاة المعتدين حق عدم الملاحقة القانونية وإن لاحقت بعضهم من باب ذر الرماد في العيون فبموجب قوانينها هي لا بموجب قوانين الدولة العراقية الهزيلة وهو أمر تحرص أمريكا على جعله ضمن بنود الاتفاقية الأمنية المرتقبة مع الحكومة العراقية ذات البنود السرية ليسوغ لجنودها الاعتداء على المسلمين في العراق أو غيرها من دول الجوار دون ملاحقة قضائية ولو صورية!!!، في تنظيم علاقة الدولة المسلمة بالدول الأخرى في أوقات السلم والحرب وهو ما يعرف بـ: "القانون الدولي العام" ............. إلخ من أوجه الإعجاز التشريعي.
والتاسع: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
والعاشر: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف: قال الله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".
بتصرف واسع من: "الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 85_87).
¥