تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقلت: هل أنت مكتبي ما تقول؟ قال: نعم. فأتيت بأديم، فأخذ يملي علي، حتى كتبت في الأكرُع. فلما رجعت قلت: يا نبي الله، وأخبرته، قال: "ائتني به". فانطلقت أرغب عن المشي رجاء أن أكون أتيت رسول الله ببعض ما يحب، فلما أتيت به قال: "اجلس اقرأ عليّ". فقرأت ساعة، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو يتلوّن، فتحيرت من الفَرق، (أي: الخوف من "فَرَقَ")، فما استطعت أجيز منه حرفا، فلما رأى الذي بي دَفَعه ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه، وهو يقول: "لا تتبعوا هؤلاء، فإنهم قد هَوكوا وتَهَوَّكوا"، حتى محا آخره حرفًا حرفا. قال عمر، رضي الله عنه: فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئًا جعلتكما نكالا لهذه الأمة! قالا: والله ما نكتب منه شيئًا أبدا. فخرجا بصلاصفتهما فحفرا لها فلم يألُوا أن يعمِّقَا، ودفناها فكان آخر العهد منها.

وكذا روى الثوري، عن جابر بن يزيد الجُعْفي، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت الأنصاري، عن عمر بن الخطاب، بنحوه.

وروى أبو داود في المراسيل، من حديث أبي قِلابة، عن عمر نحوه. والله أعلم". اهـ

فقد وعى عمر، رضي الله عنه، نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن سؤال بني إسرائيل والكتابة عنهم، فكان يزجر عن ذلك ويعاقب عليه، وأما السماع منهم عرضا، فهذا أمر آخر، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعليه يحمل جواز التحديث عنهم.

والمشهور من سيرة عمر، رضي الله عنه، أيضا: تحريه الشديد في الرواية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما في واقعة الاستئذان المشهورة، فلم يتوقف في قبول خبر أبي موسى، رضي الله عنه، ابتداء حتى يأتيه بشاهد يشهد له، لطعن في عدالة أو ضبط أبي موسى، وإنما أراد أن يسن طريقة في تحمل الأخبار وأدائها، فإن الناس إذا رأوا الصحابة، رضي الله عنهم، مع عظم منزلتهم وتعديل الوحي لهم، يخوفون في الرواية، كان ذلك زاجرا لغيرهم عن التساهل فيها من باب أولى.

وعند مسلم، رحمه الله، من حديث معاوية رضي الله عنه: إِيَّاكُمْ وَأَحَادِيثَ إِلَّا حَدِيثًا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يُخِيفُ النَّاسَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فلم يكن أمره بالإقلال من الرواية حجبا لسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما زعم بعض أهل البدع، وإنما كان احتياطا لها، فإن المكثر من الرواية بلا حاجة غالبا ما يقع له الوهم، فضلا عن كون الإكثار من الرواية بلا حاجة مظنة قلة فقه المروي.

يقول الحافظ ابن عبد البر الأندلسي المالكي، رحمه الله، المتوفى سنة 463 هـ في "جامع بيان العلم وفضله":

"احتج بعض من لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما ذكرنا في هذا الباب من الأحاديث وغيرها وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا توصل إلى مراد كتاب الله عز وجل إلا بها والطعن على أهلها ولا حجة في هذا الحديث ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه، قد ذكرها أهل العلم منها:

أن وجه قول عمر هذا إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشي عليهم الاشتغال بغيره عنه إذ هو الأصل لكل علم، هذا معنى قول أبي عبيد في ذلك، واحتج بما رواه عن حجاج عن المسعودي عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا: يا رسول الله حدثنا، فأنزل الله عز وجل: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم ....... إلى آخر الآية قال: ثم ملوا ملة أخرى، فقالوا: يا رسول الله حدثنا شيئا فوق الحديث ودون القرآن يعنون القصص فأنزل الله: (الر تلك آيات الكتاب المبين) ......... إلى قوله: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) الآية، قال: فإن أرادوا الحديث دلهم على أحسن الحديث وإن أرادوا القصص دلهم على أحسن القصص.

وقال غيره: إن عمر رضي الله عنه إنما نهى من الحديث عما لا يفيد حكما ولا يكون سنة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير