مُرْسَلٍ تُخَالِفُ رَأْيَهُ أَطَرَحْتُمُوهَا كُلَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا، وَقُلْتُمْ: لَا نَأْخُذُ بِالْمُرْسَلِ". اهـ
فعليهم يصدق قوله تعالى: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ).
وهذا غالب على مقلدة المذاهب من المتأخرين ممن فاتهم ما ظفر به المتقدمون من التجرد والتحقيق فاكتفوا بالحفظ والاستظهار دون التأمل والاعتبار، والانتصار لدليل الوحي المعصوم قرآنا وسنة.
سابعا: الاتجاه التاريخي:
ويمثله تفاسير كتفسير الخازن وتفسير الثعلبي، رحمهما الله، وقد أغربا بسرد القصص التاريخي، وإن وهت أسانيده، فكانوا كحاطبي ليل يجمعون كل ما وقع لهم من روايات، وإن أبرزوا رجال أسانيدها، ومن أسند فقد أحال، إلا أن عدم تحرير هذه الروايات صحة وضعفا قد قلل استفادة عموم المسلمين من هذه المصنفات، فاقتصرت فائدتها على المتخصصين ممن لهم دراية بمناهج المصنفين وعلوم المصطلح تصحيحا وتضعيفا، والرجال تجريحا وتعديلا.
ثامنا: الاتجاه الاجتماعي:
ويمثله تفاسير كـ: "ظلال القرآن" للأستاذ: سيد قطب، رحمه الله، وهو أقرب ما يكون إلى الخواطر الأدبية منه إلى التفسير المنهجي، مع التزام المصنف، رحمه الله، بترتيب المصحف، فلم تكن خواطره متناثرة، وإنما سارت وفق ترتيب منهجي، اهتم فيه بربط الآيات بواقع أمة الإسلام في النصف الثاني من القرن الماضي، وهي فترة شهد فيها المد الإسلامي انحسارا لا زلنا نعاني من آثاره نتيجة ما يربو على قرنين من الجمود العلمي انعكس على كافة مناحي الحياة: سياسيا، بتراجع دور الدولة العثمانية حتى سقوطها في النصف الأول من القرن الماضي، وعسكريا بسلسلة من الهزائم التي منيت بها الدولة وانتهت بتقسيم ولاياتها بين انجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، واجتماعيا، بطغيان الحضارة الغربية بقيمها الأخلاقية النفعية المادية على الشرق المسلم المهزوم نفسيا أمام مدنية الثورة الصناعية الأوروبية، وقبل كل ذلك: دينيا، بتراجع دور الدين في حياة الأفراد والشعوب، واختزاله في مجموعة من الشعائر فرط فيها كثير من المسلمين فصار الدين سلوكا فرديا لا علاقة له بالجماعة المسلمة، وتنحية الشريعة عن منصب القيادة، واستبدالها بشرائع أرضية سنها بشر غير معصوم، يسن ما استحسنه عقله وإن خالف الوحي المعصوم، ويعرض عما استقبحه عقله وإن وافق الوحي المعصوم، في مسلك اعتزالي غال طال مسائل: الأحكام العملية بعد أن ظل طيلة قرون مضت مقصورا على مسائل: الأخبار العلمية من قبيل: الأسماء والصفات، وخلق القرآن، والتحسين والتقبيح، والعدل، وما تفرع عليه من مسائل: إيجاب الصالح والأصلح، واللطف .......... إلخ.
وكتاب الظلال من أنفع الكتب من جهة الوحدة الموضوعية، وإن سبق قلم المصنف، رحمه الله، في مسائل لا يتابع عليها كبعض مسائل الإلهيات وبعض الكلمات المستهجنة في حق بعض أفراد الصدر الأول، رضي الله عنهم، خير طباق الأمة، وليس، كغيره من أهل الإسلام، براج عصمة، ولعل الله، عز وجل، أن يغفر له تلك الزلات بما قدمه في سبيل نصرة دينه، حتى دفع حياته ثمن ذلك، نحسبه كذلك والله حسبه ولا نزكي على الله أحدا، فلم يرضخ لطغيان الزعيم الهالك المقلب كذبا وزورا بالزعيم الخالد!.
تاسعا: الاتجاه العلمي:
ويمثله تفاسير كتفسير الشيخ طنطاوي جوهري، رحمه الله، وقد عني فيه برصد الظواهر الكونية والربط بينها وبين الآيات القرآنية، لبيان إعجاز القرآن في علوم الطبيعيات، فليس إعجازه مقصورا على علوم الإلهيات من أخبار وأحكام، وقد عيب على هذا المنهج أمور منها:
وقوع أصحابه في تكلف غير مرضي في بعض المواضع، ما بين مقل ومكثر، فتحمل الآيات ما لا تحتمل، وربما أدى ذلك إلى سقوط هيبة الآيات إذا طوعت لتوافق نظرية كونية ثم ثبت بعد ذلك بطلانها، فيتطرق الشك إلى الكتاب المهيمن، لأن المفسر جعل النظرية الأرضية غير المعصومة مهيمنة على الوحي المعصوم، فقلب المسألة بأن جعل الأصل وهو: الوحي المعصوم، فرعا، والفرع، وهو: العلم البشري غير المعصوم أصلا.
ومنها أيضا: إبراز الإعجاز العلمي على أنه أهم أوجه الإعجاز القرآني، في محاولة لدعوة الغرب المادي إلى دراسة علوم الإسلام بإنصاف، فصار الفرع أصلا، والأصل فرعا، فالإعجاز العلمي فرع، إذ لم ينزل الوحي ليقرر مسائل الطب وعلم الأجنة والزراعة والهندسة الوراثية ........... إلخ أصالة، وإنما نزل معجزا للعرب، أهل اللسان وأصحاب السليقة، ومقررا لمسائل الشرع أخبارا وأحكاما، ومع جاء بعد ذلك فهو نافلة بعد الفريضة، فلا يصح تقديم نفل على فرض، على أقل تقدير في خطاب المسلمين، فالأصل فيهم أنهم مقرون بدين الإسلام، فليسوا بحاجة ابتداء إلى خطاب علمي يوجه عادة إلى المنكر الجاحد لا المعترف المستيقن، فدعوة المستجيب ابتداء: تحصيل حاصل.
وأشهر المبرزين في هذا الاتجاه من العلماء المعاصرين: الشيخ الدكتور زغلول النجار، حفظه الله وبارك في عمره وعلمه وعمله، وهو ممن يتسم طرحه بالموضوعية وعدم التكلف في حمل آي الكتاب المنزل على مكتشفات الحضارة المعاصرة. وله جهود دعوية مشكورة يعرفها كثير من المصريين ممن استفاد من كتاباته وتأثر بسمته وأخلاقه ولا نزكيه على ربه.
والله أعلى وأعلم.
وبهذه الكلمات تنتهي هذه النبذ، من علوم القرآن، ولله الحمد والمنة على ما تفضل به من صواب فيها، وما كان من خطأ فهو من الكاتب ومن الشيطان، ودين الإسلام منه براء، وأسأل الله، عز وجل، أن ينفع بها كاتبها وقارئها.
والله من وراء القصد.