"لا تحسبوه": أي لا تظنوه، فهو من أفعال القلوب التي تتعدى إلى مفعولين، فالهاء: المفعول الأول، و: "شرا" المفعول الثاني، و "بل": إضراب إبطالي لما سبق، لأنه وإن كان ظاهره الشر إلا أن فيه من الحكم والمصالح ما يرجح مفسدته.
يقول ابن كثير رحمه الله:
" {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} أي: يا آل أبي بكر {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي: في الدنيا والآخرة، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين، حيث أنزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ولهذا لما دخل عليها ابن عباس، رضي الله عنه، وهي في سياق الموت، قال لها: أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحبك، ولم يتزوج بكرًا غيرك، وأنزل براءتك من السماء". اهـ
فالشر إنما يكون في المقدور لا في قدر الله، عز وجل، فقدره، جل وعلا، كله خير، وإن ظهر خلاف ذلك، بادي الرأي، وفي حديث علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، مرفوعا: (وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)، فالشر ليس إلى الله شرعا، وإن صحت نسبته إليه كونا، فهو خالقه، وإن أبغضه، فلا شيء من الموجودات يخرج عن قدرته، وأمره الكوني نافذ، بخلاف أمره الشرعي فكم له من مخالف، ولا يقدح ذلك في عموم قدرته، لأن الطائع لا يطيع إلا بتوفيقه، فضلا منه ومنة، والعاصي لا يعصي إلا بخذلانه، عدلا منه وحكمة، فكم من معصية استخرجت بها طاعة، ولولا الكفر لما ظهر شرف الإيمان، ولولا البدعة لما نشرت أعلام السنة، ولولا أهل الباطل لما خطت الأقلام وسُلت السيوف ذبا عن دين الإسلام وشريعة الرحمن.
وفي "سنن البيهقي":
"قال النضر بن شميل رحمه الله: "والشر ليس إليك" تفسيره والشر لا يتقرب به إليك". اهـ، فجعله النضر، رحمه الله، متعلقا بمفعول العبد.
وفي "معرفة السنن والآثار":
"وقال المزني: مخرج هذه الكلمة صحيح، وهو موضع تعظيم، كما لا يقال: يا خالق العذرة، وكذلك لا يقال: يا خالق الخنزير، ولا ينبغي أن يضاف إليه التقصير". اهـ
فلا ينسب الشر إلى الرب، جل وعلا، تنزيها، وإن كان مخلوقا بأمره الكوني النافذ، وفي التنزيل: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، فدخل الشر في عموم خلقه، وإن كان غير مراد لذاته، فالله، عز وجل، لا يرضى بالكفر والمعاصي، وفي التنزيل: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)، ولما وجد الجن السماء قد ملئت حرسا شديدا وشهبا قالوا: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)، فجاءوا بالمبني لما لم يسم فاعله: "أريد"، في الشر، تأدبا مع الله، عز وجل، وجاءوا بالمبني لما سمي فاعله في الخير، فالخير ينسب إلى الله، عز وجل، شرعا وكونا، والشر لا ينسب إليه، جل وعلا، إلا كونا.
وفي التنزيل: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)
فكل من عند الله، عز وجل، كونا، ولكن الحسنة منه شرعا، والسيئة من العبد كسبا، فلا تنسب إلى الله، عز وجل، إلا كونا، على التفصيل السابق.
يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله:
"فإن قيل: كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف تجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟
قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا، وتباينت طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان:
مراد لنفسه، ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه: مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
¥