ورأيت فيه الكثير من صفات جدِّه الأعظم صلى الله عليه وسلم فهو مربوع القامة، واسع الجبين، عظيم الحاجبين، واسع العينين، أقنى الأنف، واسع الفم، متوسط اللحية، قد شاب منها بعض الشعرات، شثن الكفين، عظيم الرأس، بدين بطين كجده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذا أطرق تعلوه المهابة والجلالة، وإذاتكلم تبسَّم، وترى الفصاحة عندئذٍ تتدفق من فيه وتخرج الكلمة منه مشتملة على تمام مخارج الحروف، لا يسرد الكلام سرداً بل تجده فيه على تمام التأني، لا يعزب عن سامعه شيءٌ منه.
اشتمل كلامه على حُسْن البيان وعُذوبة المنطق لا تجد فيه حَشْواً ولا فضولاً وترى فيه فصل الخطاب، والحكمةُ تجري من أطراف لسانه، لا يمل سامعه حديثه بل يود أن لا يسكت لما اشتمل عليه من الطلاوة ولما فيه من الفوائد الغزيرة والعلم المفيد.
والخلاصة: أنك إذا أبصرته أبصرت الشمائل المحمدية متجلية فيه خَلْقاً، وخُلقاً وترى النور المحمدي قد أشرق في أسارير وجهه، وهو الآن في الخمسين من العمر، أمتع الله الأمة بطول بقائه، وجعله لها ذُخْراً ومستمداً.
ولما قُدِّمت إليه وذُكِر له اسمي بَشَّ كثيراً وأمر فركبت إلى جانبه في سيارته، وعدنا إلى طرابلس لمنزل السري الوجيه مفتي طرابلس السابق وزعيم شبابها الناهض الشيخ عبدالحميد أفندي كرامة، ذلك المنزل البديع المبني على الطراز الأندلسي في نوافذه وأبوابه ونجارته ودهانة جدرانه وسقوفه.
ولما ألقينا فيه عصا التسيار هرع علماء الفيحاء، ووجهاؤها للسلام عليه وتقبيل يديه.
وأول ما رأيت من إمارات ذكائه وسَعَة معرفته: أن قُدِّم له كتاب في التفسير نُسب للشيخ عبدالقادر الجيلي قُدِّس سره فبعد أن تأمل فيه ناولنيه، فقلت إنه لم يناولنيه إلا لأمر بدا له فيه فتأملت في بعض عباراته فرأيت الكتابة فيه كتابة المتأخرين لا علماء القرن الخامس والسادس، فتقدمت إليه وقلت قد ظهر لي أن التفسير لبعض المتأخرين من أهل القرن العاشر أو الحادي عشر، فقال: (هو كذلك هو كذلك) وهناك تجلت لي فطنته وسرعة مداركه.
وكان قد حان وقت الغداء فلما قمنا إلى المائدة وكنت إلى جانبه كما أمرني فسألني: هل تَوَلَّى الشيخ خليل الخالدي المقدسي القضاء في حلب؟ أجبت: لا إنما تولى قضاء جبل سمعان وهو عبارة عن أزيد من مائة قرية حول حلب، ولما لم يكن فيها مكان صالح لأن يتخذ مركز حكومة اتخذ له في نفس حلب مركز خاص، وله حاكم خاص وقاضٍ شرعي، والشيخ خليل إنما تولى القضاء لجبل سمعان هذا وحينما كان بحلب كنا نزوره ويزورنا، فقال: قد زال الإشكال وعُرفت الحقيقة، وذلك أني قرأت في مؤلف لبعض علماء الغرب أنه تولى القضاء في حلب، ولما قرأت ذلك ذكرت أني لم أجد له ذكراً بين أسماء قضاة حلب الذين ذكرهم الشيخ كامل الغزي في تاريخه على التوالي، فعجبت لذلك، وقلت: لا يُزيل هذا الإشكال إلا فلان، وأبقيت ذلك لحين الاجتماع بك فهذا ولا ريب ينبئ عن حافظة قوية وذاكرة عظيمة، وأنه يحقِّق أموراً لا يأبه لها القارئ إذا مرَّ بها ولا تخطر له على بال، ولكنها ذات قيمة تاريخية عند محققي التاريخ أمثال الأستاذ.
ولعمري إنه بذلك ازدادت عظمته في عيني، وكبرت منزلته في قلبي حينما علمت أن أمراً مثل هذا ليس من الأهمية بمكان يدركه بمجرد قراءته له وهو من أهل المغرب الأقصى، ويستشكل فيه لمخالفته لما كان قرأه في كتاب آخر، ويبقى في ذاكرته تلك المدة إلى أن يأتي إلى المشرق فيسأل عنه ليزيل ما كان استشكله ويقف على الخبر اليقين.
ثم إنه بعد عصر ذلك اليوم ألقى درساً في جامع طرابلس الكبير افتتحه بالحديث المسلسل بالأولية وساق السند فيه من طريقين، من طريق مغربي عن والده العارف بالله الشيخ عبد الكبير بسنده، ومن طريق شرقي دمشقي عن العلامة المحدث الشيخ عبدالله السكري الدمشقي، ثم أخذ في تفسير الفاتحة ففسر نصفها الأول على طريقة أهل التصوف بعبارات وجمل خشعت لها الأفئدة وأخذت بمجامع القلوب.
وفسر النصف الثاني منها على طريقة علماء الاجتماع فبهر بذلك الألباب، وكان له وقع عظيم تجلت بذلك مقدرته وحسن نظمه للعبارات بحيث كان لها في القلوب عظيم التأثير.
¥