[تصحيح الكتب للعلامة أحمد محمد شاكر - رحمه الله -]
ـ[العوضي]ــــــــ[03 - 09 - 05, 10:00 ص]ـ
تصحيح الكتب، وتحقيقها من أشق الأعمال وأكبرها تبعة، ولقد صوَّر أبوعمرو الجاحظ ذلك أقوى تصوير، في كتاب (الحيوان) فقال (ج1، ص79 من طبعة أولاد السيد مصطفى الحلبي بمصر): "ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً، أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حرِّ اللفظ، وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقص؛ حتى يرده إلى موضعه من أمثلة الكلام؛ فكيف يطيق ذلك المعارض المستأجر، والحكيم نفسه قد أعجزه هذا الباب؟ وأعجب من ذلك أنه يأخذ بأمرين: قد أصلح الفاسد، وزاد الصالح صلاحاً، ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نسخة لإنسان آخر، فيسير فيه الورَّاق الثاني سيرة الورَّاق الأول.
ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدي الجانية، والأعراض المفسدة، حتى يصير غلطاً صرفاً وكذباً مصمتاً؛ فما ظنكم بكتاب تتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخطاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله، كتاب متقادم الميلاد، دهريُّ الصنعة".
وقال الأخفش: "لو نُسخ الكتاب، ولم يعارض، ثم نُسخ ولم يعارض خرج أعجميّا! ".
وصدق الجاحظ والأخفش، وقد كان الخطر قديماً في الكتب المخطوطة، وهو خطر محصور؛ لقلة تداول الأيدي إياها، مهما كثرت وذاعت؛ فماذا كانا قائلَينِ لو رأيا ما رأينا من المطابع، وما تجترحه من جرائم تسميها كتباً!!
ألوف من النسخ من كل كتاب، تنشر في الأسواق والمكاتب، تتناولها أيدي الناس، ليس فيها صحيح إلا قليلاً؛ يقرؤها العالم المتمكن، والمتعلم المستفيد، والعامي الجاهل وفيها أغلاط واضحة، وأغلاط مشكلة، ونقص وتحريف؛ فيضطرب العالم المتثبِّت إذا هو وقع في خطأ في موضع نظر وتأمل ويظن بما علم الظنون، ويخشى أن يكون هو المخطئ، فيراجع ويراجع، حتى يستبين له وجه الصواب؛ فإذا به أضاع وقتاً نفيساً وبذل جهداً هو إليه أحوج؛ ضحيَّة لعب من مصحح في مطبعة، أو عمد من ناشر أمِّيٍّ، يأبى إلا أن يوسد الأمر إلى غير أهله، ويأبى إلا أن يركب رأسه؛ فلا يكون مع رأيه رأي.
ويشتبه الأمر على المتعلم الناشئ، في الواضح والمشكل، وقد يثق بالكتاب بين يديه، فيحفظ بالخطأ، ويطمئن إليه، ثم يكون إقناعه بغيره عسيراً، وتصوَّر أنت حال العامي بعد ذلك!!.
وأيُّ كتب تبتلى هذا البلاء؟ كتب هي ثروة ضخمة من مجد الإسلام، ومفخرة للمسلمين، كتب الدين والعلم: التفسير والحديث، والأدب والتاريخ، وما إلى ذلك من علوم أُخر.
وفي غمرة هذا العبث تضيء قلةٌ من الكتب طبعت في مطبعة بولاق قديماً عندما كان فيها أساطين المصححين، أمثال الشيخ محمد قطة العدوي، والشيخ نصر الهوريني، وفي بعض المطابع الأهلية كمطبعة الحلبي والخانجي.
وشيء نادر عنى به بعض المستشرقين في أوروبة وغيرها من أقطار الأرض يمتاز عن كل ما طبع في مصر بالمحافظة الدقيقة - غالباً - على ما في الأصول المخطوطة التي يطبع عنها مهما اختلفت، ويذكرون ما فيها من خطأ وصواب، يضعونه تحت أنظار القارئين، فَرُبَّ خطأ في نظر مصحح الكتاب هو الصواب الموافق لما قال المؤلف، وقد يَتَبَيَّنُهُ شخص آخر عن فهم ثاقب، أو دليل ثابت.
وتمتاز طباعتهم - أيضاً - بوصف الأصول التي يطبعون عنها وصفاً جيداً، يظهر القارئ على مبلغ الثقة بها، أو الشك في صحتها؛ ليكون على صحة من أمره.
وهذه ميزة لن تجدها في شيء مما طبع في مصر قديماً بلغ ما بلغ من الصحة والإتقان؛ فها هي الطبعات الصحيحة المتقنة من نفائس الكتب المطبوعة في بولاق، أمثال: الكشاف، والفخر، والطبري، وأبي السعود، وحاشية زاده على البيضاوي، وغيرها من كتب التفسير، وأمثال البخاري، ومسلم، والترمذي، والقسطلاني، والنووي على مسلم، والأم للإمام الشافعي، وغير ذلك من كتب الحديث والفقه؛ وأمثال لسان العرب، والقاموس، والصحاح، وسيبويه، والأغاني، والمزهر، والخزانة الكبرى، والعقد الفريد، وغيرها من كتب اللغة والأدب؛ وأمثال تاريخ ابن الأثير، وخطط المقريزي، ونفح الطيب، وابن خلكان، وذيله، والجبرتي، وغيرها من كتب التاريخ والتراجم، إلى غير ذلك مما طبع من الدواوين الكبار ومصادر العلوم والفنون.
أتجد في شيء من هذا دليلاً أو إشارة إلى الأصل الذي أخذ؟!
¥