للقَول في أخلاق شَيخنا ونُعوته أُفُقٌ رَحبٌ وفَضاءٌ واسِع، وحَسبُك أن تعلم أن كلَّ من عَرَفَه من قُرب، واتَّصَلَت أسبابُه بأسبابه، رآهُ صورةً صادقَة، وأُنموذجًا فَذًّا، لما كان عليه سلَفُ الأمَّة؛ رفعَةَ خُلُق، وجَمالَ عِشرَة، ولينَ جانب. ولا غَرْوَ، فقد عاش حياتَه بصُحبَة سيرة سيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم، وسيَر أصحابه شُموس الهِدايَة رُضوان الله عليهم، فتخلَّق بأخلاقهم، وتحلَّى بشَمائلهم، وإننا لنَرجو له أن يكونَ يومَ القيامَة من أقرب الناس مَجلسًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتحقُّق أسباب ذلك فيه، فقد كان دَمِثَ الأخلاق، موَطَّأ الأكناف، يألَفُ الناسَ ويألفونَه. ووالله، لا أعرف رجُلاً اجتمعَت على محبَّته القلوب، وائتلَفَت على مودَّته النفوس، كالشيخ رحمه الله تعالى.
كان مِلْءَ العَينِ خُلْقا عاليًا ومُروءاتٍ وفَضلاً و وَفا
جمعَ الأخلاقَ والعلمَ معًا فهُما في بُردتَيه ائتَلَفا
وهو إلى هذا شديدٌ في الحقِّ، لا يُماري فيه ولا يُداري، بل يَصدَع بالنصح، غيرَ هيَّاب ولا متردِّد، وإذا ما انتُهكَت حُرمةٌ من حُرَم الله، تراه كالبُركان ثائرًا فائرًا، يكادُ يتميَّز من الحَنَق والغَيظ، يقول ما يُرضي ربَّه، ولا يخافُ في الله لومةَ لائم.
وكان فيه شُموخٌ وأنَفَة بيِّنَة، وعزَّة بالله ودينه عظيمَة، يَمقُت النفاق والمنافقين، ويشنأ طرائقَهم الملتوية وتسلُّقَهم على أكتاف الآخرين؛ في سبيل تحقيق مَنافعهم الخَسيسة، والفوز بمآربِهم الذَّميمة.
وكان الشيخُ رحمه الله عفَّ اللسان، واسعَ الصدر، حَليمًا، لا يغتاب أحدًا، ولا يُحبُّ أن يُغتابَ في مجلسه أحدٌ. ولقد سمعتُه مرارًا يُسأل عن بعض العُلَماء والدعاة المخالفين له في المنهَج، فلا يُجيب إلا بما يُرضي الله، مقدِّمًا حسنَ الظن والتماس العُذر.
ولقد حضَرتُ في مجلسه ذاتَ يوم شابًّا من طلاَّب العلم! بذل وُكْدَه في استدراج الشيخ للوَقيعَة بأحد العُلَماء، ولكنَّ الشيخ خيَّبَ مسعاه وأبى أن يَفوهَ إلا بالخير، وما زال الطالبُ يناقش ويُجادل حتى ضاقَ أهل المجلس به ذَرعًا، والشيخ صابر عليه، يدفَعُ قولَه بالَّتي هي أحسَن.
أما كرَمُه وسَخاءُ نفسه فالحديثُ عنهما ذو شُجون، فقد كان الشيخُ ذا يدٍ حانيَة، رَقيقًا عَطوفًا، لا يرُدُّ سائلاً، ولا يقصِّر في عَون، ما قَدَر على ذلك.
تَراهُ إذا ما جئتَهُ مُتَهَلِّلاً كأنَّكَ تُعطيهِ الذي أنتَ سائِلُه
وأذكرُ أنني زُرتُه - أيام الدراسة الجامعيَّة - مع عدد من زُمَلائي الأضِرَّاء، فرَقَّ لهم جدًّا، وأخذ يشجِّعُهم على تحصيل العلم ومُواصَلة الدراسة، ويُعَزِّيهم بمُصابِهم الذي ابتلاهُم الله به، وروى لهم عددًا من الأحاديث الشريفَة في فضيلة الصَّبر على فقد البَصَر، وما أعدَّه الله للصابرين من أجر يومَ الحساب، ولم يكتَفِ الشيخُ بهذا، بل أمسك بأيديهم ودخلَ بهم إلى الحُجرَة المجاورة، ثم لم يلبَثوا أن عادوا، ولما خرَجنا من بيت الشيخ علمتُ أنه أعطى كلَّ واحدٍ منهم مبلغًا من المال؛ تَطييبًا لخاطرهم، ومساعدةً لهم.
وأما تواضُعُه وإنكارُه ذاتَه، فشيءٌ دون وَصْفه خَرْطُ القَتاد، فقد بلَغَ مرتبةً من التواضُع عالية - مع الحفاظ على العزَّة والهيبَة - متأسِّيًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتَراه منبَسطًا في الحديث مع ضُيوفه وزوَّاره، يصغي إليهم ويوليهم من اهتمامه وعنايتِه ما يشعُرُ معه كلُّ واحد منهم أنه هو ربُّ المجلس، وكان من عادَته المحبَّبة التي يتألَّف بها قُلوبَ العامَّة، أنه لا يَدخُل بيتَه زائرٌ إلا رحَّب به بحرارة، وسأله عن اسمه ونسبه ومهنَته ومن أيِّ بلد هو، مع ما في ذلك من مشقَّة وإرهاق لشيخ يحبو نحو الثَّمانين، ولكنه كان يتقرَّب إلى الله بإدخاله السعادَة إلى قلوب الناس.
¥