تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهذه الخمسة المذكورة هي المقصودة بالتفقه والتخرج على أحد المذاهب فهماً ومعرفة ودراسة. ولهذه الطريقة من المحاسن الشيء الكثير؛ فالدارس عندما يتعلم الفقه عبر أحد المذاهب فإنه يتعرف على المسائل المنصوص عليها في الكتاب والسنة، كما يحوز إليها المسائل التي تثبت بالإجماع أو القياس أو قول الصحابي، أو التي تثبت بفتيا السلف وعملهم. ينضاف إلى ذلك أن دارس الفقه عبر أحد المذاهب المتبوعة تخرجاً وتفقهاً يجد مسائل الفقه مرتبة مجموعة في كتب وأبواب مقرونة بأحكامها، مع أن المبتدئ بالفقه المذهبي يحوز ملكة استعمال لغة الفقهاء، ويتعرف على مصطلحاتهم، كما في قول أهل مذهب ما: (قال الإمام: وعليه الأصحاب، وفي رواية: وجزم به المتأخرون، وهو ظاهر الرواية ... )، فلا بد لطالب الفقه من معرفة هذه اللغة وتلك المصطلحات حتى يتسنى له الانضمام إلى قافلة الفقهاء.

إن كل العلماء والمجتهدين الذين كان لهم ذكر وريادة، بعد اشتهار المذاهب الأربعة، لم يخل أحد منهم من التخرج على أحد هذه المذاهب؛ فابن حزم ـ مثلاً ـ تخرج على مذهب الشافعية، وابن تيمية تخرج على الفقه الحنبلي، والشاطبي تخرج على المذهب المالكي .. ؛ فهي طريقة عامة المتفقهين الذين كانت لهم إمامة في الدين، غير أننا نعود فنكرر: هذا التمذهب ينبغي أن يتم بعيداً عن التعصب والجمود وضيق الرؤية؛ إذ المؤمن متعبَّد بالوحي لا بأقوال الرجال، ومن المذموم المقيت حصر طالب العلم لأدلة المسائل الفقهية في قول إمام معين؛ يستشهد بقوله ولا يستشهد له ولو استبان له الدليل واتضح له التعليل؛ في دائرة من ضيق الأفق تجعله لا يرى قولاً صحيحاً إلا في المذهب الذي انتهجه، ولا علماً حقاً إلا في إطار ذلك المذهب، وقد انطبع كثير من المتأخرين ـ بكل أسف ـ بهذا التعصب الأصلع والتقليد الأعمى، فجاء النكير شديداً لذلك من جماعات كثيرة من الأئمة الأعلام؛ كابن عبد البر في الجامع، وابن القيم في إعلام الموقعين، والشاطبي في الاعتصام والموافقات.

يقول ابن القيم: «اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت منصوص قوله ـ فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ـ تعالى ـ ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة» (26).

وقد قرر أهميةَ إعمال أقوال الأئمة الفقهاء عند النظر في النصوص، دون استقلال لها عن النص أو به، أئمةُ الإسلام، ومن ذلك ما قاله الشاطبي: «فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا، فاقتدوا بجهالٍ أمثالهم، وأخذوا يقرؤون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم لا على ما قال أهل العلم فيها، فخرجوا عن الصراط المستقيم» (27).

فينبغي لطالب العلم عند النظر في نصوص الشارع كتاباً وسنة أن يطالع أقوال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فمن بعدهم من التابعين وأتباعهم، ثم يقرأ أقوال وفهوم أصحاب المذاهب المتبوعة لتلك النصوص، ويختار قولاً من بينها إن كانت له أهلية اجتهاد، ولو جزئية، بناء على قوة دليله.

فالنظر إلى النصوص يستلزم استظهار أقوال الفقهاء؛ حتى لا يأتي المتفقه بقول لا سلف له فيه.

وهنا تنبغي الإشارة إلى ضرورة تطبيق المنهج النبوي التربوي في التعليم، ذلك المنهج القائم على التدرب والاستنباط وعرض المسائل، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم، حدثوني ما هي؟» قال: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: «هي النخلة» (28). فالفقهاء يحتاجون إلى استلهام هذا المنهج وتطبيقه، يقول ابن القيم: «كثرة المزاولات تعطي الملكات، فتبقي للنفس هيئة راسخة وملكة ثابتة» (29).

وكان العلامة السعدي يعقد المناظرات بين طلابه لإحياء التنافس في الطلب وترسيخ المسائل في الأذهان، ويطرح عليهم المسائل ليستخرج منهم الجواب، وأحياناً يتعمد تغليط نفسه ليعرف المنتبه والفاهم من بين الحضور، وقد يصور المسألة الخلافية بين الطالبين كل واحد يتبنى قولاً ويدافع عنه، ثم يرجِّح الشيخ القول الصحيح بالدليل (30).

3 ـ معرفة أصول الفقه:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير