فلتحصيل المسائل المتعلقة بالأحكام لا بد من دراسة هذا الكتاب العزيز والعكوف عليه، وتحصيل دلالته بعد حيازته حفظاً وتفسيراً وأحكاماً وفهماً، حتى يفقه طالب العلم ناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، وراجحه ومرجوحه، ونصه ومؤوله.
ثم يسلك الطريق نفسه مع السنة النبوية بوصفها الرافد الثاني لشريعة الله المحكمة، المبينة للقرآن ومعانيه، والمخصصة له والمرجحة لأحكامه، فلا بد من قراءة صحاحها وسننها وجوامعها ومصنفاتها.
وفي سبيل ذلك لا بد أن يكون طالب الفقه مستعداً لتحمل أصعب المشاق وأعظم المتاعب؛ إذ الفقه في الدين لا ينسجم مع اتباع الهوى والركون إلى الراحة والدعة. يقول يحيى بن أبي كثير: «لا يستطاع العلم براحة الجسم» (23)، فلا بد من الصبر والجلد وطول النفس، يقول خالد بن صفوان: «مفتاح نجح الحاجة الصبر على طول المدة، ومغلاقها اعتراض الكسل دونها» (24).
ويقول ابن حنبل البوحسني الشنقيطي:
جرع النفس على تحصيله
مضض المرين ذل وسغب
2) معرفة الفقه عبر مذهب من المذاهب المتبوعة.
هذه المذاهب التي لم تقم إلا للارتواء من الفقه والازدياد من معارفه، فعن طريقها يتمكن طالب العلم من تشقيق مسائل الفقه وتفريع دلائلها، وحصر جزئياتها تحت أبواب واضحة المعالم، وترتيبها ترتيباً يسهل عليه خوض غمارها وكشف دثارها وجمع صغارها وكبارها .. ؛ فقد بلغ أئمة هذه المذاهب أبعد الشأن في علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية القصوى في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى، وصار الناس كلهم يعولون في الفتوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى ضُبِط مذهب كل إمام منهم؛ أصولُه وقواعدُه وفصوله، فانضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام، وكان ذلك من لطف الله على عباده المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين.
إن هذا المسلك الثاني للتفقه في الدين يراد به التزام طالب العلم في بداية الطلب أحد هذه المذاهب تخرجاً وتفهماً وتفقهاً، حتى تتضح له الرؤية الفقهية وتنضبط عنده المسائل، وتستقيم له الدلائل، ويجتمع لديه الفقه بعيداً عن التعصب المذموم والتقليد المقيت، في إطار من التعلق بالدليل والركون إليه.
هذه المذاهب إن اجتمعت على حكم شرعي واتفقت عليه سبل أربابها كان هو الحكم المعبر عنه بالإجماع والاتفاق في كتب الفقه ومسائله وأبوابه، وهذا النوع لا يعد خصوصية لأي من المذاهب، بل هو مما أطبق عليه أئمة الإسلام. بعكس الحكم الشرعي المختلف فيه، فإنه يعد من خصوصيات المذهب الذي أخذ به أهله بل قد يكون من مفرداتهم؛ فهو قول لإمام ذلك المذهب، والمنتسبون إلى المذهب ينتسبون إليه من هذا الوجه، ويوصفون تبعاً لذلك بحنفيتهم أو مالكيتهم أو شافعيتهم أو حنبليتهم.
والفقه الذي نحن بصدد تحصيله وتنمية الملكة فيه لا يخرج عن أمور خمسة، بيّنها الإمام القرافي بقوله: «المذهب الذي يقلد فيه الإمام خمسة أمور لا سادس لها: أولها: الأحكام: كوجوب الوتر، والأسباب: كالمعاطاة، والشروط: كالنية في الوضوء، والموانع: كالدَّين في الزكاة، والحِجاج: كشهادة الصبيان والشاهد واليمين، فهذه الخمسة إن اتفق على شيء منها فليس مذهباً لأحد» (25).
فأول هذه الخمسة ـ كما سبق ـ الأحكام الشرعية الفروعية الاجتهادية، سواء أكان تعلقها بالعبادات أو المعاملات؛ كوجوب الفاتحة في الصلاة وركنية الطواف في الحج.
ثانياً: أسباب تلك الأحكام، والتي إما أن يكون متفقاً عليها بين المذاهب؛ ككون رؤية الهلال سبباً لثبوت دخول الشهر، أو تكون تلك الأسباب مختلفاً فيها؛ كما هو شأن الرضعات المحرمة في عددها وصفتها، فهذه قد وقع الخلاف فيها.
وثالثها: شروط تلك الأحكام، التي منها المتفق عليه؛ كاشتراط حولان الحول لوجوب الزكاة، ومنها المختلف فيه؛ كاشتراط الولي والشهود في النكاح.
ورابعها: موانع تلك الأحكام، والتي منها المتفق عليه؛ كمانع الحيض للصلاة والصوم، ومنها المختلف فيه؛ كمانع الدَّين من وجوب الزكاة.
وخامسها: الحِجاج التي تثبت بها تلك الأحكام، سواء أكان تعلقها بالأسباب أوالشروط أو الموانع، هذه الحجاج التي منها المثبت المتفق عليه؛ كثبوت الأموال بشاهدي عدل في باب الدعاوى، ومنها المختلف فيه؛ كشهادة الصبيان في القتل والجراحات.
¥