وقد خصه جمع غفير من العلماء بالتصانيف والمؤلفات، من ذلك: كتاب (الفروق) للإمام القرافي المالكي الذي شمل، إلى جانب القواعد الفقهية، فروقاً وافرة كما يشهد بذلك عنوانه، كذلك كتاب عبد الرحيم بن عبد الله الحنبلي المسمى (إيضاح الدلائل في الفرق بين المسائل)، وقد جمع كتاب (القواعد الجامعة والفروق والتقاسيم النافعة) للشيخ عبد الرحمن السعدي فروقاً كثيرة غاية في الأهمية.
\ معارف إضافية للفقيه:
إلى هذه الأسس الستة المتقدمة تنضاف معارف لا بد منها للمهتم بتنمية ملكته الفقهية، فالفقيه كلما ازدادت معارفه توسعت مداركه، ولهذا قال ابن الجوزي: «للفقيه أن يطالع من كل فن طرفاً، من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقه يحتاج إلى جميع العلوم، فليأخذ من كل شيء منها مهماً» .. ثم قال: «فينبغي لكل ذي علم أن يلمّ بباقي العلوم فيطالع فيها طرفاً؛ إذ لكل علم بعلم تعلق» (35).
ومن أهم المعارف التي ينبغي للفقيه أن يعتني بها:
1) معرفة تاريخ التشريع الإسلامي ونشأته وتطوره، وتتبع مراحله وأهم المحطات التي مر بها، إضافة إلى أهمية معرفة الفرق والمناهج والمدارس الفكرية وأصولها وطرقها في الاستدلال.
2) معرفة عادات العرب وقت نزول الوحي، يقول الإمام الشاطبي: «ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه وإلا وقع ـ أيْ: المتفقه ـ في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة» (36)، وكذلك ضرورة معرفة الواقع الذي ستنزل عليه الفتوى، والذي هو الساحة الميدانية للفقيه.
3) معرفة أسباب النزول، والوقائع التي صاحبت نزول الوحي، والسؤالات التي نزلت آيات وأحاديث الأحكام إجابةً عليها، ويترتب على ذلك معرفة الناسخ والمنسوخ.
4) معرفة اللغة العربية، فأهمية معرفة علوم اللغة العربية للدارس لا يدانيها شيء، يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «ونفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب» (37).
5) طلب المتفقه ما له صلة بالفقه؛ كعلم الحساب الذي يعتمد عليه في كثير من أمور الترِكة ومسائل الفرائض، يقول ابن القيم: «ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم؛ فإنه لا يكون فقيهاً إلا إذا أخذ من كل علم بحظ، ثم يتوفر على الفقه وينجمع عليه فإنه عز الدنيا والآخرة» (38).
وهذه الملكة الفقهية الناشئة لدى طالب العلم تحتاج إلى رعاية وتعهد وحماية ووقاية لحفظها من الآفات والمعوقات، وذلك بالارتباط بالأدلة الأصلية، يقول وهبة الزحيلي:
«أدلة الأحكام هي روح الفقه، ودراستها رياضة للعقل وتربية له، وتكوين للملكة الفقهية لدى كل متفقه» (39).
\ آفات في طريق المتفقه:
هذا إضافة إلى أن المتفقه لا بد له من أخذ جميع إجراءات الحيطة؛ حتى لا تدركه بعض آفات التفقه التي قد تعتور طريقه فتوقف سيره أو تؤدي به إلى التخاذل والخور، ومن تلك الآفات:
1) عدم التدرج في طلبه للفقه في الدين، ذلك الفقه الذي لا بد فيه من انتقاء المدرس والتدرج أثناء التحصيل والفهم، وقد أجاد عتبة بن أبي سفيان في قوله لمؤدب ولده: «لتكن أول ما تبدأ به من إصلاح بَنيَّ إصلاح نفسك؛ فإنَّ أعينهم معقودة بعينك؛ فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِّهم من الحديث أشوقه، ومن الشعر أعمقه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه؛ فإنَّ ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعلم موضع الداء» (40).
يقول ابن خلدون في مقدمة تاريخه: «اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدرج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقي عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يَرِد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن» (41). كذلك ينبغي الترتيب في دراسة العلوم حسب الأولوية؛ فدراسة العقيدة أولى من دراسة النحو .. ؛ إذ العقيدة أهم المهمات وأولى المعارف، والأحكام العينية أولى بالتقديم من الأحكام الكفائية، والتي يكون
¥