المسلم أكثر عرضة لها أولى من تلك التي احتمالات تعرضه لها أضأل .. وهكذا.
2) الإكثار من المذاهب والأقوال، والاختلاف وتتبع الأغلوطات وغرائب المسائل، مما يجعله في بداية مشواره الطلبي عرضة لمحبة اللجاج والخصومة من غير طائل، فيخرج عن جادة الصواب، ويكون همه ومبتغاه تحقيق النصر على الخصوم والأعداء، وليس تحصيل الحق واتباعه.
قال ابن القيم: «أخس همم طلاب العلم مَنْ قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزَّل ولا هو واقع، أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس، وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال، وقلًّ أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه» (42).
3) ومن العوائق أن يدرس الدارس الأصول على مذهب والقواعد الفقهية على مذهب آخر، ثم يأخذ الفروق على مذهب مغاير؛ فهذا يربك الدارس ويذبذبه، فالأولى له دراسة هذه العلوم على مذهب واحد وبمنهجية مستقيمة، تقوده إلى سلك الطريق الأمثل.
4) التقصير في المذاكرة مع العلماء وطلاب العلم، قال الإمام النووي: «مذاكرةُ حاذق في الفن ساعةً أنفع من المطالعة والحفظ ساعات؛ بل أياماً» (43). وذكر الخطيب البغدادي شروط المفتي، ثم قال: «فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه، ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال، والاجتماع مع أهل النحل والمقالات المختلفة ومساءلتهم، وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ودرسها ودوام مطالعتها» (44).
5) العناية بالحفظ دون الفهم، وهذا يجسد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «رب حامل فقه غير فقيه» (45)؛ لأن مجرد الحفظ دون الفهم لا يفيد فقهاً ولا علماً؛ إذ الفقه والعلم إنما يكونان بالحفظ والفهم والاستيعاب والتصور، قالت الحكماء: «حياة العلم الفهم» (46)، والفهم هو أقل وأعظم ما يتوفر لدى طلبة العلم، يقول ابن الجوزي: «أقل موجود في الناس الفهم والغوص على دقائق المعاني» (47).
6) ومن العوائق: النسيان، ومن أسبابه مقارفة المعاصي، ذلك أن هذا العلم نور، كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، ونور الله لا يجتمع مع ظلمة المعصية، يقول الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوءَ حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نورٌ
ونورُ الله لا يهدى لعاصي
وما أجمل ما نقله البيهقي بسنده عن ذي النون قال: «ثلاثة من أعلام الخير في العالم: التقى [بـ] قمع الطمع عن القلب في الخلق، وتقريب الفقير والرفق به في التعليم والجواب، والتباعد من السلطان. وثلاثة من أعلام الخير في المتعلم: تعظيم العلماء بحسن التواضع لهم، والعمى عن عيوب الناس بالنظر في عيب نفسه، وبذل المال في طلب العلم إيثاراً له على متاع الدنيا. وثلاثة من أعلام الفهم: تلقُّف معاني الأقوال، وإنجاز الجواب في المقال، وكفاية الخصم مؤونة التكرار. وثلاثة من أعلام الأدب: الصمت حتى يفرغ المتكلم من كلامه، ورد الجواب إذا (انتظر) منه الجواب، وإعطاء الجليس حظهُ من المؤانسة والمكاثرة في وجهه حتى يقوم» (48).
يقول محمد بن عبد العظيم الزرقاني: «وعلم الموهبة؛ وهو علم يورثه الله ـ تعالى ـ لمن عمل بما علم، ولا يناله من في قلبه بدعة أو كبر أو حب دنيا أو ميل إلى المعاصي، قال ـ تعالى ـ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] (49).
ومن أسباب ضياع العلم كذلك عدم التكرار؛ إذ إن مَنْ ترك التكرار لا بد أن ينسى.
وخلاصة القول: إن تنمية الملكة الفقهية إذا شُيِّدت على أسسها فإنها تقود إلى فهم الفقه بشكل يجعل الفقيه قادراً على تنزيل أحكامه طبقاً لمقتضيات الواقع، دون تعسف مع النصوص أو ليٍّ لأعناقها.
فأهمية تنمية الملكة الفقهية عند استكمالها لشروطها تتجلى في دورها الفعال في صياغتها العقلَ الفقهي الذي يحرك الآسن من الفقه ليواكب الزمن المتغير بالاجتهاد المثمر؛ الذي هو من زاوية النصوص حركة تؤكد شمولية الشريعة وصلاحيتها الأبدية، ومن زاوية الأفراد يعتبر تجسيداً لملكة تؤهل حامليها لاستنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الفرعية التي منطلقها الوحي، وهذا هو ما قاد الفقهاء الأقدمين بما رسخ لديهم من الملكة الفقهية في الاستنباط والترجيح، وحسن الاختيار، وإنزال النصوص على الوقائع إلى مستوى فقهي استطاعوا به أن يغطوا حياة الناس
¥