تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

على أننا لو نظرنا إلى فعالية الدعوة الأخلاقية بخصوص نفسها، أي من حيث تحقيقها لأهدافها حتى لو كانت أهدافا جزئية بجانب الدعوة الإسلامية، فإن المتأمل في الواقع لهذه الدعوة وإلى نظريتها، سواء على صعيد الدعاة الإسلاميين ـ الذين تنتسب دعوتهم إلى الإسلام ـ أو على صعيد غيرهم من الدعاة الأخلاقيين، يقنع أن هذا المنهج غير مجد حتى في تحقيق أهدافه المحدودة.

لقد عكفت فترة من الزمن على استقراء فكر بيتر دركر ـ والذي هو من أبرز الداعين إلى التصحيح الأخلاقي في المجتمع والمؤسسات المجتمعية ـ فكانت كتاباته منحصرة في قضيتي الإدارة والمجتمع المستقر المثمر، وكانت قضية الإدارة ـ بالنسبة إلى دركر ـ هي قضية مجتمع وإصلاح، لا قضية مؤسسة أعمال كما يبدو من الشريحة العريضة التي استفادت من كتاباته، فإنه خلال بحثي في أثر دركر الواقعي في المجتمع الغربي عامة والأمريكي خاصة، فإن تأثيره كان بارزا جدا في عالم الإدارة والأعمال، فالمؤسسات قد استعملت وفعّلت نظرياته الإدارية بنجاح في تحقيق أهدافها الربحية، حتى أن "بل جتس" المعروف مالك ومدير مؤسسة "ميكروسوفت" للبرمجيات، يصرّح بكون مرجعيته الخبراتية الأولى هي بيتر دركر .. وهذا في عالم الأعمال، الأثر بارز لا يحتاج إلى تفحّص وتلمّس. ثم إذا بي أبحث عن الأثر الواقعي لدعوته الأخلاقية فلا ألمس لها كبير أثر، بل ولا أجد لها أثرا يذكر، ولا أجد تلك (الكونفوشيوسية) إلا ربما داخل دائرة المؤسسة؛ لأنها تساعد على تحقيق المزيد من الأرباح .. فمن أين تلك المفارقة بين التقنيات الاستثمارية، وبين الجوانب الأخلاقية، مع اتحاد مصدر التوجيه وهو أدبيات دركر؟

إن الجواب قد أحسن سيد قطب رحمه الله حين عرضه في عدة مواضع من الظلال .. فقال في ظلاله على سورة آل عمران فقال:

«وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة. في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق: التعامل هو أولاً تعامل مع الله، يلحظ فيه جناب الله، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه. فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة؛ وليس هو عرف الجماعة، ولا مقتضيات ظروفها القائمة. فإن الجماعة قد تضل وتنحرف، وتروج فيها المقاييس الباطلة. فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء. ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى. . أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة. . ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله؛ بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه. . بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض؛ واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء.»

ويقول في ظلاله على سورة النساء:

«{إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً. الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله. وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً!}

وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي. وهي ربط كل مظاهر السلوك وكل دوافع الشعور، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة. فإفراد الله - سبحانه - بالعبادة والتلقي، يتبعه الإحسان إلى البشر، ابتغاء وجه الله ورضاه، والتعلق بثوابه في الآخرة؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله. فهو لا يخلق رزقه، ولا ينال إلا من عطاء الله. . والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر، والبخل والأمر بالبخل، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء؛ أو الإنفاق رياء وتظاهراً طلباً للمفخرة عند الناس؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد!

وهكذا تتحدد " الأخلاق ".» ا. هـ

ومن هنا يتضح أن الأخلاق لابد لها من (مصدر) وهذا المصدر يتحتم أن يكون (علويا) بمعنى أن يكون من جهة عليا فوق الجهة البشرية كلها، حتى يخضع لها الجميع على المساواة، دونما استعلاء جهة بشرية على جهة أخرى. ويتحتم كذلك أن يكون المصدر (ثابتا) لا يتأرجح، ولا تدخله تفسيرات البشر بالصورة التي يؤول بها في النهاية إلى ذات المآل من الاختلاف الحقيقي حول ماهية الممارسات الأخلاقية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير