وفي قوله تعالى ?وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى?
وفي قوله تعالى ? وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?.
فبالرسالة تقوم الحجة، ولا يبقى عذر لمعاند، فالعذر - بعدم الإرسال والنذارة والبشارة - قائم ..
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن المغيرة بن شعبة قال*: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: «تعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة».
فالله تعالى لا يحاسب العبد -ولو كان الحساب على أمر حسن في ذاته مدركا حسنه بالعقل- حتى يبعث رسولا، كما يوضحه تماما قوله تعالى ? وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ? وقوله تعالى ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ?.
- الوجه الثاني: العقول والفطر السليمة لا (تدرك) حقيقة الأمور الحسنة حتى وإن (عرفت) تلك الأمور، فماهيات الأشياء تختلف عن أشكال الأشياء.
إن معرفة الصانع للعالم هو شيء حسن، بل حتى معرفة أنه واحد لا شريك له، أما حقيقة معرفته سبحانه وتعالى وتوحيده والخضوع لسلطانه وإقامة حاكميته في الأرض، فهو لا يتم إلا بالرسالة ..
وهذا يجري تماما في قضية الأخلاق التي نظن أن بها قدرا متفقا عليه بين كل البشر، وأننا ندركه بالطبيعة والفطرة ولا يلزم فيه تشريع الإسلام أو أن يتم في إطار العبودية ..
من الذي يلزم بهذا القدر المتفق عليه من الأخلاق؟ جهة بشرية؟ .. يتفرع عليه: من الذي أعطى تلك الجهة أن تلزم بتلك الأخلاقيات؟. نحن أدركنا أنها حسنة وإلى هذا القدر ينتهي الأمر .. فمن ذا الذي أعطى نفسه الحق أن يلزم به الناس؟ إن الإلزام هنا والإثابة والمعاقبة هي قدر زائد عن مجرد إدراك حسن هذه الأمور، فمن يتولى القيام على هذا القدر الزائد؟ وبأي مبرر يتولاه؟
كذلك هذ القدر الذي أدركنا حسنه، قد (عرفنا) أنه حسن، ولكننا لم (ندرك) حقيقته وماهيته حين التقنين له لتفعيله وتنفيذه .. فرد الإحسان إلى من أدّى إليك معروفا هو أمر حسن، ومساعدة المحتاج هي أمر حسن، وتقدير ضعف الضعيف هو أمر حسن، ولكن تلك هي الفكرة عموما، ثم حين تفعيل تلك الأمور الحسنة فإن لها تفصيلات وعناصر لابد من بيانها لا تتفق عليها المجتمعات البشرية، بل ربما لا يتفق عليها الأفراد فيما بينهم. يضرب الناس مثالا لبروز الأخلاقيات باليابانيين والصينيين في ألعابهم القتالية، وأن الخصمين اللاعبين يحترم كل منهما الآخر، وأنهما يجلسان مع بعضهما البعض كأصدقاء قبل المبارزة، وأنه لو فقد أحدهما سلاحه فإن الآخر يتوقف حتى يتسلم خصمه سلاحه، وأنه يحترمه حتى بعد أن يقتله! ويرون ذلك نموذجا للأخلاقيات التي تبرز في أصعب الأحوال التي نتصور أن تبرز فيها الأخلاقيات .. هل من الأخلاقيات أصلا أن يقتل إنسان إنسانا في ممارسة لعبة؟!!
إن سمت الجاهلية بالبعد عن النظام الرباني هو باد لا محالة، فإن لم يبد في التفاصيل الجزئية، فهو باد في الأطر العامة التي تحيط بتفاصيل ربما تكون بالفعل حسنة في ذاتها. تأمل هذا وادركه جيدا فهو أصل عظيم في تصور هذه الأمور التي يظهر فيها الحسن والاشتراك مع المسلمين فيها، فلا يدركها من يقصر نظره على الجزئيات دون مجالاتها.
نعم أخي الداعية المسلم، لن تستقيم الحياة بدعوتك الأخلاقية، فأنت تدعو أناسا لازالت فطرتهم تصرخ جوعا إلى معرفة ربها .. ولن ينقاد الناس لأخلاقيات لا يرى المرء دافعا أو (مبررا) لامتثالها سوى أن يكون تحكم من غيره .. إن تلك الدعوة لا تصلح، والواقع أكبر برهان.
¥