البيت، بل ويحمي القانون ذلك .. فأي أصحاب فضيلة ترجع إليهم الأخلاق؟!
من هنا كان عنصر (الثبات) لازما وضروريا للمصدر الذي تلقى منه الأخلاق.
ثم بقي تقرير أن هذا المصدر العلوي الثابت لا تستقر الأخلاق إلا أن يكون هو دين الإسلام .. وليس هذا من باب التحكم، بل الدليل المنطق يقتضي ذلك:
إننا حينما نقول لابد من مرجعية علوية، فهذا يعني – بديهة – أن تظل هذه المرجعية علوية، أي أنها لا تأتي من قبل البشر، بل يأتي به الإله الواحد سبحانه وتعالى لأجل أن يتبناها البشر على السواء ويعملون بها دون أن يكون لطائفة منهم تحكم في طائفة أخرى. فإذا وقع التحريف في هذه الجهة العلوية، بحيث انقلبت مرة أخرى وصارت جهة بشرية، فالواقع أنها تفقد علويتها، حتى لو ظلت تحمل اسمها الذي هو الدين.
فاليهودية كانت يوما هي دين الله، حينما كانت على التوحيد الذي أتى به موسى عليه السلام، وحينما كانت تسير بشريعة موسى التي أتى بها من عند الله، فلما حرف اليهود دينهم، وصاروا يضعون عقيدة وشريعة من عند أنفسهم، هنا نقول: الآن ما صارت هذه الجهة علوية، بل هي جهة بشرية يمثلها اليهود، لأنهم هم في الحقيقة الذين يضعون الأخلاق، حتى لو ظلوا يقدمون هذه الأخلاق تحت اسم الدين.
والنصرانية كانت ديانة التوحيد حينما كان أتباعها على عقيدة عيسى عليه السلام، وحينما كانوا يسيرون بشريعة التوراة والإنجيل، فلما حرفوا الكتاب وكتبوه بأيديهم، فقدوا مزية كونهم مصدرا علويا للأخلاق، حتى لو ظلوا يضعون ما يضعون باسم الدين.
وبإطلالة على أخلاق اليهود والنصارى نعلم كيف أنه لا يمكن أن نتلقى العقيدة من مصدر غير علوي ..
فاليهود لما حرفوا دينهم، وجعلوا إلههم إلها قوميا، هو إله بني إسرائبل، ولا يهتم إلا ببني إسرائيل، من هنا فقد ذهب اليهود إلى أن الله لا يحاسبهم فيما يفعلونه مع غيرهم .. فلنا أن نتصور شكل (الأخلاق) اليهودية بعد تقرير هذه العقيدة عندهم!
والنصارى لما حرفوا دينهم، ولما قالوا ببنوة عيسى لله، فقد أعطوه حق المغفرة للبشر، ومن هنا فقد ورثت الكنيسة هذا الحق – حق المغفرة – فنشأ ما يعرف بصكوك الغفران! والتي إن أخذها أحد فلا يعبأ بعد ذلك، ويفعل ما يفعل فيغفر له .. فلنا أن نتصور شكل (الأخلاق) المسيحية بعد تقرير هذه العقيدة عندهم!
والدين الوحيد الذي يبقي محفوظا من التحريف بحفظ مصادره وبقاء رجال على التوحيد، هو دين الإسلام، ومن هنا يبقى هذا الدين هو الدين الوحيد المحتفظ بعلوية مصدره. ويبقى أن لا تصلح الأخلاق أبدا، ولا يلتزم الناس بها بصورة كيانية تصلح بها البشرية، إلا من خلال الدخول في العقيدة الصحيحة الوحيدة .. عقيدة الإسلام. والحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وربما قيل: إن هناك أسسا من الأخلاق هي حسنة حتى دون ورود الشرع بها كما هو مقرر في بعض المباحث المدرجة في مصنفات علم أصول الفقه؟
قلت: حتى وإن كان الأمر كذلك، فإنه حين الإلزام تنبثق الاستفسارات حول مبررات الإلزام، كذلك فإن العقول والفطر السليمة لا تدرك الحقائق دون الرسالة والتبليغ. فهذان وجهان رئيسيّان في تفنيد تلك الشبهة، أتناولهما بنوع تفصيل:
- الوجه الأول: الإلزام؛ فالإلزام لا يكون إلا من خلال إقامة الحجة.
لنضرب على ذلك مثالا بـ "الإيمان" حيث يذكر الأصوليون - فيما أدرج في كتب الأصول - أن الإيمان هو من الأمور الحسنة لذاتها، لما فيها من شكر الصانع. والسؤال المتبادر هنا: لماذا يرسل الله تعالى الرسل وقد عرفنا حسن الإيمان لذاته وقبل وروده بالرسالة؟
الجواب هو في قوله تعالى ? إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ?
¥