فإذا كانت هذه الانحرافات التى بدأت أيام الأمويين، وبقيت وزادت حدتها على يد العباسيين، فقد أضيفت إليها بحكم عوامل جديدة انحرافات أخرى خطيرة أودت بالحكم العباسي فى النهاية، وما زالت آثارها أو أثار منها سارية فى جسم الأمة حتى هذه اللحظة، تنتظر من يبرئها منها حتى تستطيع أن تبعث من جديد.
ظهرت فتنة " الفرق ".
ولئن كان الخوارج قد ظهروا من قبل فى عهد على رضى الله عنه واستمروا فى العهد الأموى، وظهر المرجئة رد فعل لظهور الخوارج، وكان أمر هؤلاء وهؤلاء منبعثا من فتنة مقتل عثمان , والقتال الذى دار بين على ومعاوية، فقد تفشت الفرق تفشيا ذريعا فى العصر العباسى، وكانت لها منابع خارجية فى هذه المرة إلى جانب المنابع الداخلية.
لقد نشطت الحركة العلمية فى العصر العباسى، ونشطت معها حركة الترجمة من الإغريقية واللاتينية، وكان فيها الكثير النافع الذى تحتاج إليه الأمة بالفعل، ولكن المسلمين انخدعوا فى لون من الفكر حسبوه نافعا لهم فنقلوه إلى العربية فكان منه شر كثير، ألا وهو الفلسفة الإغريقية.
لقد كانت تلك الفلسفة فكرا جاهليا رغم كل إشراقاته وكل تجلياته. وما كان ينبغى لهذا الفكر الجاهلى بحال من الأحوال أن يمتزج بالإسلام، ذلك النور الربانى الخالص الذى يشرق بذاته من مصدريه الأصيلين الصافيين، كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والذى عاش على إشراقته ذلك الجيل المتفرد فكان كما كان.
وأسوأ ما فى ذلك الفكر هو: عقلانيته التجريدية التى تحول كل شئ إلى فكرة مجردة باردة لا حياة فيها ولا حركة، فضلا عن تضخيم دور العقل حتى يصبح هو الحكَم الأخير فى كل أمر من الأمور.
وقد أصاب هذا الفكر المسيحية فأنشأ فيها ما يسمى " اللاهوت " وهو محاولة عقيمة للتوفيق بين خزغبلات الكنيسة العقدية من التثليث، والبنوة المزعومة لله سبحانه وتعالى، وفكرة الخطيئة الأبدية، والصلب والفداء .. إلخ، وبين الفلسفة الإغريقية.
ولئن كان النصارى فى محاولتهم لإضفاء العقلانية على تلك الخزعبلات التي لا يستسيغها العقل قد لجئوا إلى الفلسفة الإغريقية لعلها تعنيهم، فتخبطوا، وفشلوا، وظل لاهوتهم يحمل ذات الخلط الذى تحمله مقررات المجامع " المقدسة "، فما كان المسلمون فى حاجة إلى مثل هذا السلوك، وهم الذين يحملون النور الصافى من منابعه الصافية المستغنية بذاتها عن كل مدد من خارجها ليس من طبيعتها.
ولكن الفتنة بالفلسفة من جهة، وفتح الخلفاء العباسيين المجال من جهة أخرى للمناظرة بين علماء المسلمين وبين اليهود والنصارى فى أمر الإسلام، جعل " المثقفين " فى ذلك العصر يتجهون إلى الفلسفة الإغريقية لتعينهم فى هذا الجدل، حتى أصبحت هى " الموضة " الفكرية للعصر كله.
ومن لوثة الفلسفة الإغريقية والعقلانية الإغريقية نشأت فرق كثيرة وتخبطات كثيرة فى فكر المسلمين.
ويذكر الناس المعتزلة نموذجا للغزو الفكرى الإغريقي فى فكر المسلمين، حيث جعلوا العقل هو المحكم فى الوحى، وجعلوه هو المرجع الأخير فى كل أمر من الأمور حتى العقيدة.
ولكن المعتزلة لم يكونوا وحدهم الذين تأثروا بالعقلانية الإغريقية وانحرفوا بها عن عقيدة الإلام الصحيحة،
فكل الذين خاضوا فى قضايا الصفات من " المتكلمة " وفى قضايا القضاء والقدر والجبر والاختيار .. كان اعتمادهم فى " الكلام " الذى قالوه، على تلك العقلانية التى تعطي العقل أكبر من حجمه الحقيقى، وتجعله هو المرجع وهو الحكَم فى كل قضايا الوجود،
فانزلقوا إلى تصورات لا هي إسلامية صافية، ولا كانت العقيدة الإسلامية الواضحة البسيطة السمحة فى حاجة إلى شئ منها، ولا هى قدمت أى خدمة لتلك العقيدة،
بل حولتها من تصوُّر صاف ووجدان حي وسلوك عملي يُقصد به مرضاة الله، إلى قضايا ذهنية تجريدية باردة، لا تزيد الإيمان إن لم تبعث على إثارة الشكوك والشبهات المناقضة للإيمان، ولا تحرك الوجدان، ولا تؤدى إلى سلوك واقعى، لأن من شأن العقلانيات أن تبدأ فى الذهن وتنتهى فى الذهن، وتجد تحقيق غايتها فى ذلك الجهد الذى يبذله الذهن، دون أن تخرج من هذه الدائرة المغلقة إلى الواقع الحي عن طريق الوجدان والسلوك.
¥