قال الإمام الحجة في اللغة وعلومها ابن سِيده الأندلسي في كتابه " المحكم والمحيط الأعظم ": ورَثَيْتُ له: رَحِمْتُه. ا. هـ
وعليه فقد رجع المعنى إلى صفة الرحمة , ويكون هذا اللفظ من باب الإخبار عنها , وباب الأخبار أوسع من باب الصفات , وبهذا نكون قد خرَّجنا كلام الشيخ العلامة عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله تخريجاً حسناً من غير تغليط ولا تشنيع , والحمد لله رب العالمين.
وأختم المقال بكلمة نفيسة ودُرَّة ثمينة للإمام الشوكاني رحمه الله , أنقلها بطولها من كتابه " البدر الطالع 2/ 38 - 39 " لِما فيها من العظة والعبرة , ولا سيما لمن أضاع الزمان وأفنى الأوقات في تتبع الزلات والعثرات , ولقد جرت سنة الله تعالى أن من اشتغل بعيوب الناس اشتغل الناس بعيوبه , وأذاقوه من الكأس الذي طالما جرَّعه غيره , وأظهروا من فلتاته وزلاته ما لم يكن بالحسبان , يقول الشوكاني رحمه الله:
وفى ذنوبنا التى قد اثقلت ظهورنا لقلوبنا أعظمُ شغلة , وطوبى لمن شغلته عيوبه , ومن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه , فالراحلة التى قد حملت مالا تكاد تنوء به إذا وضع عليها زيادة عليه انقطع ظهرها وقعدت على الطريق قبل وصول المنزل , وبلا شك أن التوئب على ثلب أعراض المشكوك في إسلامهم فضلا عن المقطوع بإسلامهم جراءة غير محمودة , فربما كذب الظن وبطل الحديث وتقشعت سحائب الشكوك وتجلت ظلمات الظنون وطاحت الدقائق وحقت الحقائق , وإن يوما يفر المرء من أبيه ويشح بما معه من الحسنات على أحبابه وذويه لحقيقٌ بأن يحافظ فيه على الحسنات ولا يدعها يوم القيامة نهبا بين قوم قد صاروا تحت أطباق الثرى قبل أن يخرج إلى هذا العالم بدهور, وهو غير محمود على ذلك ولا مأجور, فهذا مالا يفعله بنفسه العاقل , وأشد من ذلك أن ينثر جراب طاعاته وينثل كنانة حسناته على أعدائه غير مشكور بل مقهور وهكذا يُفعل عند الحضور للحساب بين يدى الجبار بالمغتابين والنمامين والهمازين واللمازين؛ فإنه قد علم بالضرورة الدينية أن مظلمة العرض كمظلمة المال والدم , ومجرد التفاوت في مقدار المظلمة لا يوجب عدم انصاف ذلك الشىء المتفاوت أو بعضه بكونه مظلمة , فكل واحدة من هذه الثلاث مظلمة لآدمى , وكل مظلمة لآدمى لا تسقط الا بعفوه , ومالم يعف عنه باق على فاعله يوافى عرصات القيامة , فقل لى كيف يرجو من ظَلم ميتا بثلب عرضه أن يعفو عنه؟ ومن ذاك الذى يعفو في هذا الموقف وهو أحوج ما كان إلى ما يقيه عن النار؟ وإذا التبس عليك هذا فانظر ما تجده من الطباع البشرية فى هذه الدار فإنه لو أُلقى الواحد من هذا النوع الإنسانى إلى نار من نيار هذه الدنيا وأمكنه أن يتقيها بأبيه أو بأمة أو بابنه أو بحبيبه لفعل , فكيف بنار الآخرة التى ليست نار هذه الدنيا بالنسبة إليها شيئا , ومن هذه الحيثية قال بعض من نظر بعين الحقيقة: لو كنت مغتابا أحدا لاغتبت أبى وأمى لأنهما أحقُ بحسناتي التى تؤخذ منى قسرا. وما أحسن هذا الكلام!
ولا ريب أن أشد أنواع الغيبة وأضرها وأشرها وأكثرها بلاء وعقابا ما بلغ منها إلى حد التكفير واللعن فإنه قد صح أن تكفير المؤمن كفر ولعنه راجع على فاعله وسبابه فسق وهذه عقوبة من جهة الله سبحانه , وأما من وقع له التكفير واللعن والسب فمظلمة باقية على ظهر المكفر واللاعن والسَّبَّاب , فانظر كيف صار المكفِّرُ كافرا واللاعن ملعونا والسَّبَّاب فاسقا , ولم يكن ذلك حد عقوبته بل غريمه ينتظر بعرصات المحشر ليأخذ من حسناته أو يَضع عليه من سيئاته بمقدار تلك المظلمة , ومع ذلك فلا بد من شىء غير ذلك وهو العقوبة على مخالفة النهى لأن الله قد نهى في كتابه وعلى لسان ورسوله عن الغيبة بجميع أقسامها ومخالف النهي فاعلُ محرمٍ وفاعل المحرم معاقبٌ عليه. انتهى كلامه رحمه الله , ولله درُّه ما أجمله! وما أحسنه من موعظة وذكرى للمؤمنين.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
وكتبه / عبدالحميد بن خليوي الجهني
ليلة الأحد 2 ذي الحجة 1429 هـ
ينبع - المملكة العربية السعودية - أدام الله عزَّها بالإسلام.
ـ[جهاد حِلِّسْ]ــــــــ[14 - 04 - 10, 08:29 ص]ـ
¥