قلت: فهذه الكلمة لو قالها أحد العلماء المعاصرين لقامت عليه حدَّادية العصر فبدَّعوه وضلَّلوه ورموا به في البحر الميت! غير آسفين عليه , ولا مُلتفتين إليه!
ولكن اسمع إلى ما قال الحافظ الذهبي رحمه الله معتذراً للذهلي، حيث أورد هذه الكلمة في ترجمة الإمام أحمد في " سير أعلام النبلاء " فعقَّب عليها بقوله: قلت: تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع. انتهى
ومضى الذهبي في سلامة الله من غير تشنيع ولاقدح ولاتنقيص من قدر الذهلي رحمه الله.
وفي ترجمة الحافظ المتقن النسَّابة محدث الديار المصرية عبدالغني بن سعيد المتوفَّى سنة (409) , قال أبو الوليد الباجي: عبد الغني بن سعيد حافظ متقن، قلت لابي ذر الهروي: أخذت عن عبد الغني؟ فقال: لا إن شاء الله.
على معنى التأكيد، وذلك أنه كان لعبد الغني اتصال ببني عبيد، يعني أصحاب مصر.
أورد الخبر الذهبيُّ في " سير أعلام النبلاء " ثم قال معتذراً للحافظ عبدالغني: قلت: اتصاله بالدولة العبيدية كان مداراةً لهم، وإلا فلو جمح عليهم، لاستأصله الحاكمُ خليفة مصر، الذي قيل: إنه ادعى الالهية.
وأظنه ولي وظيفة لهم، وقد كان من أئمة الاثر، نشأ في سنة واتباع قبل وجود دولة الرفض، واستمر هو على التمسك بالحديث، ولكنه دارى القوم، وداهنهم، فلذلك لم يحب الحافظ أبو ذر الاخذ عنه. انتهى
وقد ترجم أحدُ العلماء المعاصرين للإمام ابن القيم رحمه الله , فقال عنه: جلس مدةً لإنكار شد الرحل لزيارة قبر الخليل , ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم , ولكنه معجب برأيه جرىء على أمور. انتهى
فانبرى الإمام الشوكاني رحمه الله للدفاع عن الإمام ابن القيم , في كتابه " البدر الطالع " حيث أورد هذه الكلمة فتعقبها بقوله: قلت: بل كان متقيدا بالأدلة الصحيحة , معجبا بالعمل بها , غير مُعوِّل على الرأي , صادعا بالحق , لا يحابى فيه أحدا , ونعمت الجرآة. انتهى
ومن الأمثلة على تأني العلماء وتركهم الرمي بالوهم والغلط , ما قاله ابن الأثير رحمه الله في كتابه " جامع الأصول 6/ 382 " حيث أورد حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في النهي عن الوصال في الصيام , وقد أخرجه البخاري , فقال عقبه: ولم أجد هذا الحديث في كتاب الحميديِّ، وقد ذكره البخاري في كتاب الصوم، في باب الوصال , بعد حديث أنس، ولا أعلم سبب سُقُوطه من كتاب الحميديِّ الذي قرأتُهُ ونقلتُ منه، ولعله يقعُ في نسخة أخرى لكتابه، أو أنَّهُ لم يكن في كتاب البخاري الذي رواه الحميديُّ، ونقل منه، والله أعلم. انتهى.
فتامل في الأدب حيث لم يرمِ الحُميدي بالغلط , بل التمس له العذر , وخرَّج له التخاريج.
وفي هذه الأيام شنَّع بعض طلبة العلم على تفسير الشيخ العلامة عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله , من غير أن يلتمسوا لمؤلفه العلامة العذرَ فيما قال أو يخرجوا كلامه تخريجاً حسناً , والشيخ ابن سعدي من أولى الناس بهذا المعاملة؛ لكثرة ما نَشر الله على يديه من الخير , فقد بُورك له في كتبه وتلاميذه فكان منهم أئمة في هذا العصر , وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء.
ولعل ِمن أعظم ما استدركوه على تفسير الشيخ هو قوله في تفسير قول الله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} البقرة (175)
حيث قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: ... ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار.
فاستدركوا هذه الكلمة (توجَّع لهم) , وغلَّطوا الشيخ فيها , وقالوا هي صفة نقص لا تليق بالله , مع أنه كان بالإمكان تخريج كلام الشيخ تخريجاً حسناً من غير تغليطه أوالتشنيع عليه , فتُحمل كلمة (توجَّع لهم) على معنى (رثى لهم) كما نصَّ على ذلك أئمة اللغة ,
ففي " معجم مقايس اللغة 6/ 88 " قال ابن فارس: توجعت له: رثيت. انتهى.
وفي " المحكم " لابن سِيده: توجَّع: تشكَّى الوجع. وتوجع له مما نزل به: رثى له. انتهى
وفي " مختار الصحاح ": تَوَجَّعَ له من كذا أي رثى له. انتهى
وفي " لسان العرب ": توجَّعَ له مما نزل به: رَثى له من مكروه نازل. انتهى
ثم إن معنى (رثى له) أي: رَحِمَه.
¥