تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وليس في مقدور الباحث اليوم أن يكشف عن أطوار النشأة الأولى للغة العربية؛ لأن التاريخ لم يسايرها إلا وهي في وفرة الشباب والنماء. والنصوص الحجرية التي أخرجت من بطون الجزيرة لا تزال لندرتها قليلة، إن حدوث هذه الأطوار التي أتت على اللغة فوحَدت لهجاتها وهذبت كلماتها معلوم بأدلة العقل والنقل؛ فالعرب كانوا أميين لا تربطهم تجارة ولا إمارة ولا دين، فكان من الطبيعي أن ينشأ من ذلك ومن اختلاف الوضع والارتجال، ومن كثرة الحل والترحال، وتأثير الخلطة والاعتزال، اضطراب في اللغة كالترادف واختلاف اللهجات في الإبدال والإعلال والبناء والإعراب، و هَنات المنطق كعجعجة قُضاعة (العجعجة: قلب الياء جيما بعد العين وبعد الياء المشددة، مثل راعي يقولون فيها: راعج. وفي كرسي كرسج).

وطمطمانية حِمْير (الطمطمانية: هي جعل أم بدل أل في التعريف، فيقولون في البر: أمبر، وفي الصيام: أمصيام)، وفحفحة هذيل (الفحفحة: هي جعل الحاء عيناً، مثل: أحل إليه فيقولون أعل إليه) وعنعنة تميم (العنعنة: هي إبدال العين في الهمزة إذا وقعت في أول الكلمة، فيقولون في أمان: عمان.)، وكشكشة أسد (الكشكشة: جعل الكاف شيناً مثل: عليك فيقولونها: عليش.)، وقطْعةِ طيئ (القطعة: هي حذف آخر الكلمة، مثل قولهم: يا أبا الحسن، تصبح: يا أبا الحسا.)، وغير ذلك مما باعد بين الألسنة وأوشك أن يقسم اللغة إلى لغات لا يتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها.

ولغات العرب على تعددها واختلافها إنما ترجع إلى لغتين أصليتين: لغة الشمال ولغة الجنوب. وبين اللغتين بون بعيد في الإعراب والضمائر وأحوال الاشتقاق والتصريف، حتى قال أبو عمرو بن العلاء: (ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا). على أن اللغتين وإن اختلفتا لم تكن إحداهما بمعزل عن الأخرى، فإن القحطانيين جلوا عن ديارهم بعد سيل العرم - قد حدث 447 م كما حققه غلازر الألماني- وتفرقوا في شمال الجزيرة واستطاعوا بما لهم من قوة، وبما كانوا عليه من رقي، أن يخضعوا العدنانيين لسلطانهم في العراق والشام، كما أخضعوهم من قبل لسلطانهم في اليمن. فكان بين الشعبين اتصال سياسي وتجاري يقرب بين اللغتين في الألفاظ، ويجانس بين اللهجتين في المنطق، دون أن تتغلب إحداهما على الأخرى؛ لقوة القحطانيين من جهة، ولاعتصام العدنانيين بالصحراء من جهة أخرى، وتطاول الأمد على هذه الحال حتى القرن السادس للميلاد، فأخذت دولة الحميريين تزول وسلطانهم يزول بتغلب الأحباش على اليمن طوراً، وتسلَط الفرس عليه طوراً آخر. وكان العدنانيون حينئذ على نقيض هؤلاء تتهيأ لهم أسباب النهضة والألفة والوحدة والاستقلال؛ بفضل الأسواق والحج، ومنافستهم للحميريين والفرس، واختلاطهم بالروم والحبشة من طريق الحرب والتجارة، ففرضوا لغتهم وأَدبهم على حمير الذليلة المغلوبة، ثم جاء الإسلام فساعد العوامل المتقدمة على محو اللهجات الجنوبية وذهاب القومية اليمنية، فاندثرت لغة حمير وآدابهم وأخبارهم حتى اليوم.

لم تتغلب لغات الشمال على لغات الجنوب فحسب، وإنما استطاعت كذلك أن تبرأ مما جنته عليها الأمية الهمجية والبداوة من اضطراب المنطق واختلاف الدلالة وتعدد الوضع، فتغلبت لغة قريش على سائر اللغات؛ لأسباب دينية واقتصادية واجتماعية أهمها:

1 - الأسواق: وكان العرب يقيمونها في أشهر السنة للبياعات والتَسوّق وينتقلون من بعضها إلى بعض، فتدعوهم طبيعة الاجتماع إلى المقارضة بالقول، والمفاوضة في الرأي، والمبادهة بالشعر، والمباهاة بالفصاحة، والمفاخرة بالمحامد وشرف الأصل فكان من ذلك للعرب معونة على توحيد السان والعادة والدين والخلق، إذ كان الشاعر أو الخطيب إنما يتوخى الألفاظ العامة والأساليب الشائعة قصداً إلى إفهام سامعيهن وطمعاً في تكثير مشايعيه. والرواة من ورائه يطيرون شعره في القبائل وينشرونه في الأنحاء فتنتشر معه لهجته وطريقته وفكرته.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير