جاء في (ملاك التأويل): "للسائل أن يسأل عن تكرير لفظ (البلد) وجعله معطوفاً وفاصلة في الآيتين وكيف موقع ذلك في البلاغة، وعند الفصحاء.
والجواب: أنه قد تقدم أن العرب مهما اعتنت بشيء وتهممت به كررته، وإن ذلك من فصيح كلامهم وأن منه قوله:
وإن صخراً لوالينا وسيدنا
وإن صخراً إذا نشتو لنحار
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
… وذكره ظاهراً لما يحرز هذا المعنى من تعظيمه، لما فيه من تعظيمه لما فيه من التنبيه والتحريك" [17].
وقيل إن التكرير جيء به لفائدة أخرى وهي أن هذا البلد حرام لا تستحل حرمته، ولا يسفك فيه دم ولا يروع فيه آمن، ولكن الله أحل لنبيه يوم فتح مكة ما لم يحله لغيره من قتل وأسر فكأن هذا البلد في هذا اليوم غيره في سائر الأيام وأنه أصبحت له صفة أخرى، وهي صفة الحل فجمع صفتي الحرم والحل فتكرر لتكرر الوصفين، وكأنه أصبح بلدين لا بلداً واحداً.
جاء في (درة التنزيل): "السائل أن يسأل عن تكرير (البلد) وجعله فاصلة بين الآيتين.
والجواب أن يقال: إذا عني بالثاني غير المقصود بالأول من وصف يوجب له حكماً غير حكم الأول كان من مختار الكلام. فالبلد الأول قصد به وصف لم يحصل في الثاني وهو مكة. لأن معنى أقسم بالبلد المحرم الذي جبلت على تعظيمه قلوب العرب، فلا يحل فيه لأحد ما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: (وأنت حل) أي: محل حل لك منه ما حرم على غيرك.
فصار المعنى: أقسم بالبلد المحرم تعظيماً له، وهو مع أنه محرم على غيرك. محل لك إكراماً لمنزلتك. فالبلد في الأول محرم وفي الثاني محلل" [18].
(ووالد وما ولد)
اختلف في الوالد هذا وما ولد، فقيل: هو آدم وذريته "وعلى هذا فقد تضمن القسم، أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة ومرجع العباد إلى آدم" [19].
وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وآباؤه فعلى هذا "أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب" [20].
وقيل: هو كل والد وما ولد من العقلاء وغيرهم " لا يراد به معين، بل ينطلق على كل والد. وقال ابن عباس ذلك. قال: هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان" [21].
وهذا الذي يترجح عندي فهو يشمل كل والد وولده يدخل فيه ما ذكره الأولون ولا يخصهم.
ووجه ارتباطها بالمقسم عليه ظاهر، ذلك أن الولادة مشقة وتعب ومكابدة، فارتباطها بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) بين.
وكما هي مرتبطة بالمقسم عليه في أول السورة هي مرتبطة أيضاً بآخر السورة، وهو قوله: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) ذلك أن الوالد من الأناسي والبهائم، يحتاج في تربية ولده وحفظه وإطعامه والقيام عليه إلى صبر ورحمة. فأتضح بذلك قوة ارتباط الآية بأول السورة وآخرها.
ثم انظر كيف انتقل من الوالد وما ولد إلى خلق الإنسان ـ وهو من جملة الوالد وما ولد ـ فخصه من بين هذا العام لأن مدار الكلام معقود عليه.
ثم انظر كيف قال: (وما ولد) ولم يقل: (ومن ولد) ولذلك أكثر من سبب.
فإن (ما) عامة و (من) خاصة، فإن (ما) تقع لذوات غير العاقل، وتقع لصفات من يعقل، فتقول: (اركب ما تركب) و (آكل ما تآكل) فهي هنا لذوات غير العاقل. وتقع لصفات العقلاء قال تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) [النساء]. وقال: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت) [آل عمران] وقال: (وما خلق الذكر والأنثى) [الليل]. وهو الله سبحانه. وتقول: (زيد ما زيد) قال تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) [الواقعة].
فهي تكون للعاقل وغيره، فهي أعم وأشمل من (من) قال الفراء: "وصلحت (ما) للناس، ومثله (وما خلق الذكر والأنثى) وهو الخالق للذكر والأنثى مثله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) ولم يقل: من طاب" [22].
ثم عن لفظها يوحي بالسعة والشمول، ذلك أنهال منتهية بحرف الإطلاق وهو الألف، وهو الذي يمتد فيه النفس بخلاف (من) الذي ينتهي بحرف مقيد، وهو النون الساكنة، فجعل المنتهي بحرف مطلق للمطلق الكثير، والمنتهي بحرف مقيد للقليل المقيد بالعقل.
فجاء بـ (ما) لتناسب العموم والشمول في الآية.
¥