ثم إن هذه الآية مناسبة لجو السورة على وجه العموم، فهي مرتبطة بإطعام المحتاجين في اليوم ذي المسغبة، فإن الوالد يسعى إلى إطعام ولده ويلاقي من أجل ذلك ما يلاقي من مشقة ومكابدة. إن جو السورة تسيطر عليه المكابدة والمشقة والصبر والرحمة وكل ذلك يعانيه الوالد لحفظ ولده ورعايته.
ثم انظر من ناحية أخرى، كيف يحتمل قوله: (ووالد وما ولد) ما تحتمله كلمة (حل) من السعة في احتمالات المعنى، وكيف يناسب ذلك سعة (ما) نطقاً ومعنى.
(لقد خلقنا الإنسان في كبد).
الكبد: الشدة والمشقة [23]. ومعنى (في كبد) أنه "يكابد مشاق الدنيا والآخرة. ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره، إما في جنة، فتزول عنه المشقات، وإما في نار فتتضاعف مشاقته وشدائده" [24].
وقيل: "يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء لا يخلو عن أحدهما" [25].
لقد عبر عن هذا المعنى بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ولم يقل: (يكابد) أو (مكابداً) ونحو ذلك، ذلك أن (في) تفيد الظرفية والوعاء. ومعناه: أن الإنسان خلق مغموراً في المشاق والشدائد والصعاب منغمساً فيها كما ينغمر الشيء في الماء، وكما يكون الشيء في الوعاء. فالشدائد والمشاق تحيط بالإنسان لا تنفك عنه إلى أن يموت. وبعد الموت إما أن يجتاز العقبة، فيدخل الجنة فتزول عنه الشدائد والمصائب، وإما أن لا يجتازها فيبقى في المشقات والشدائد أبد الآبدين منغمراً في النار وهي أكبر الشدائد وأعظمهن.
ومن معاني (الكبد) أيضاً القوة والشدة والصلابة.
جاء في (لسان العرب): "وكبد كل شيء عظم وسطه وغلظه كبد كبداً وهو أكبد، ورملة كبداء عظيمة الوسط… والكبداء: الرحى التي تدار باليد، سميت كبداء لما في إرادتها من المشقة. وفي حديث الخندق: فعرضت كبدة شديدة وهي القطعة الصلبة من الأرض. وأرض كبداء وقوس كبداء: أي شديدة" [26].
وهذا المعنى من لوازم المعنى الأول، فإن الذي خلق مكابداً للشدائد والمصائب متحملاً مشاق الدنيا لا بد أن يكون خلق مستعداً لذلك قوياً عليه شديد التحمل له.
إن هذه الآية هي جواب القسم الذي تقدم، فقد اقسم بالبلد الحرام في وقت حلول الرسول الأعظم فيه، وأقسم بالوالد وما ولد على أن الإنسان خلق مغموراً في الشدائد والمشاق.
والسورة كلها مبنية على هذا الأمر، فهي مبنية على مكابدة الإنسان للشدائد والمصائب والمشاق. وكل لفظة وكل تعبير في هذه السورة مبني على ذلك ويخدم هذا الشيء.
أما ارتباط القسم بالجواب، فهو واضح فقد ذكرنا ارتباط قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد) بهذه المكابدة وكيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلقى ما يلقى من قومه من مشقة وشدة وهو يبلغ دعوة ربه وفي هذا إشارة إلى أن الدعاة ينبغي أن يوطنوا أنفسهم على المكابدة والصبر، وتحمل المشاق، فإن هذا من لوازم الدعوة إلى الله تعالى، فقلما يكون الداعية في عافية من ذاك. قال تعالى: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) [العنكبوت].
والفتنة مشقة كبيرة وشدة بالغة، نسأل الله العافية. وعلى الإنسان أن يكابد ويجاهد للنجاة منها. ثم انظر من ناحية أخرى كيف ارتبطت مفردات القسم بكل معانيها بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد).
فالحل كما ذكرنا لها أكثر من معنى، وهي في كل معانيها مرتبطة بهذا الأمر. فهي إذا كانت بمعنى الحال والمقيم فهي مرتبطة به، ذلك أن الرسول في أثناء حلوله بمكة كان يكابد ويتحمل من أصناف الأذى والمشاق الشيء العظيم فهو في كبد من ذلك، وكان يتلقى ذلك بصر وثبات وقوة وشدة، فهي مرتبطة بالكبد بمعنييه، المشقة والقوة.
وإذا كانت بمعنى اسم المفعول، أي: مستحل قتلك وإيذاؤك لا تراعى حرمتك، فهي مرتبطة بذلك ارتباطاً واضحاً فهذا كله مشقة ونصب.
وإذا كانت بمعنى أنك حل من أعمالهم متحرج من آثامهم بريء منها فهي مرتبطة بها كذلك، ذلك أنه يكابد ويجاهد ليخرج عن مألوف عادات قومه وأفعالهم، ويكابد للقيام بفضائل الأعمال وجلائلها، وهي أمور مستكرهة على النفس ثقيلة عليها، تحتاج إلى مكابدة وقوة للقيام بها، قال تعالى: (إنا سنقلى عليك قولاً ثقيلاً) [المزمل]. وقال صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".
¥