فهي في كل معانيها مرتبطة بالجواب أحسن ارتباط وأتمه.
وكذلك قوله: (ووالد وما ولد) مرتبط بالجواب أحسن ارتباط وأتمه، كما ذكرنا فهو مرتبط بـ (الكبد) بمعنييه: المشقة والقوة. فقد ذكرنا أن الولادة مشقة وعنت، وهي تحتاج إلى قوة ومثابرة ومكابدة لحفظ المولود وتربيته وبقائه وتوفير غذائه.
كما أن هذه الآية مرتبطة بما بعدها من اقتحام العقبة، ومشاق الجوع وغيرها أتم ارتباط، كما هو ظاهر وكما سنبين ذاك.
(أيحسب أن لن يقدر عليه أحد).
قيل: إن المعني بقوله: (أيحسب) بعض "صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتضعف للمؤمنين أن لن تقوم قيامة، ولم يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه" [27].
وقيل: إن التهديد "مصروف لمن يستحقه" [28].
وقيل: إن المعني به الإنسان، أي: أيظن هذا الإنسان الذي خلق مكابداً شديداً، أن لن يقدر عليه أحد؟
جاء في (البحر المحيط): "والظاهر أن الضمير في (أيحسب) عائد على الإنسان، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته، يحسب أن لا يقاومه أحد، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده" [29].
وجاء في (التبيان): "ثم أنكر سبحانه على الإنسان ظنه وحسبانه أن لن يقدر عليه من خلقه في هذا الكبد والشدة والقوة التي يكابد بها الأمور.
فإن الذي خلقه كذلك أولى بالقدرة منه وأحق. فكيف يقدر على غيره من لم يكن قادراً في نفسه. فهذا برهان مستقل بنفسه. مع أنه متضمن للجزاء الذي مناطه القدرة والعلم فنبه على ذلك بقوله: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) وبقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) فيحصي عليه ما عمل من خير وشر ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه" [30].
وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح، فالذي خلق يكابد المصائب والمشاق لا بد أن يكون خلاق مستعداً لاحتمال ذلك ولا بد أن يكون شديد الخلق قوياً، وهو من معاني (الكبد) كما ذكرنا.
قال تعالى: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) [الإنسان] فهذا الذي خلق شديداً قوياً ويكابد المصائب والمشاق قد يسبق إلى وهمه أن لن يقدر عليه أحد، فيهدده ربه ويتوعده إذا كان عنده هذا الحسبان بأن الذي خلقه وزوده بهذه القوة والشدة أقدر منه على نفسه.
والظاهر أن هذا الحسبان واقر في نفوس البشر فهم يتصورون أنه لا يتمكن منهم أحد ولا يقدر عليهم أحد، ولذا تراهم يعيشون في غطرسة وكبرياء وظلم بعضهم لبعض معتصمين بجبروتهم وقوتهم لا يحسبون لمن خلقهم حساباً، ولو حسبوا حساباً لخالقهم وربهم القوي القادر لتطامنوا وتواضعوا.
ثم إن هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) أي: ألا يتصور هؤلاء الذين ينتهكون محارم البلد الحرام ولا يرعون لك حرمة فيؤذنك ويعذبونك مستندين إلى قدرتهم وجبروتهم ألا يظنون أن هناك من هو أقدر عليهم منهم عليك؟
فهي مرتبطة بما قبلها أتم ارتباط وأحسنه.
جاء في (تفسير الرازي): "اعلم أنا إن فسرنا (الكبد) بالشدة في القوة، فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدته لا يقدر عليه أحد، وإن فسرناه بالمحنة والبلاء، كان المعنى تسهيل ذلك على القلب، كأنه يقول: وهب أن الإنسان كان في النعمة والقدرة، أفيظن أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد؟ " [31].
(يقول أهلكت مالاً لبداً)
اللبد: هو الكثير المجتمع من تلبد الشيء إذا اجتمع [32].
ومعنى الآية: إنه يقول إنه أنفق مالاً كثيراً، وهو يقول ذاك إما على جهة الافتخار أو على جهة التحسر.
جاء في (الكشاف): "يريد كثرة ما أتفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها، مكارم ويدعونها معالي ومفاخر" [33].
وجاء في (روح المعاني): "أي: يقول ذلك وقت الاغترار فخراً ومباهاة وتعظماً على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة…
وقيل: المراد ما تقدم أولاً، إلا أن هذا القول وقت الانتقام منه، وذلك يوم القيامة. والتعبير عن الإنفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ" [34].
¥