وانظر بعد ذلك ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فهؤلاء من أشد الناس مكابدة ومعاناة. ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله: (يقول أهلكت مالاً لبداً) فقد أهلكها هذا القائل في غير محلها، فلم يطعم جائعاً ولم يفك رقبة.
ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بالآية بعدها، وهو قوله: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) فإن فك الرقاب وإطعام المحتاجين من المرحمة. وهؤلاء الأصناف من الناس من المسترفين والمساكين من أحوج الخلق إلى الصبر.
(ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)
إن (ثم) هنا لا تفيد التراخي في الوقت وإلا تأخر الإيمان عن العمل الصالح الذي ذكره من فك الرقاب وإطعام المحتاجين في حين أنه لا يفيد عمل من دون إيمان. وإنما تفيد (ثم) ههنا تراخي رتبه الإيمان ورفعه محله عما ذكره من الأعمال لأنه هو الأصل، وهو مدار القبول والرفض.
جاء في (الكشاف): "جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به" [75].
وجاء في (فتح القدير): "جاء بثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان ورفعة محله. وفيه دليل على أن هذه القرب، إنما تنفع مع الإيمان" [76].
وذكر بعد الآيات التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة.
جاء في (الكشاف): "المرحمة: الرحمة أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه، أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين أو بما يؤدي إلى رحمة الله" [77].
إن السورة مبنية على هذين الأمرين: الصبر والمرحمة.
فالصبر مرتبط بقوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) لما يلاقيه الرسول من عنت وأذى وهو حال بهذا البلد.
وبقوله: (ووالد وما ولد) فإن تربية الولد وحفظه بحاجة إلى الصبر.
ومرتبط بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) لأن المكابدة والمشقة والشدة، تحتاج إلى صبر.
وسلوك النجدين يحتاج إلى صبر لما في صعودهما وسلوكهما من تعب ونصب، واقتحام العقبة يحتاج إلى صبر، والرقبة المسترقة تحتاج إلى صبر على القيام بشأن العبودية، وقضاء اليوم ذي المسغبة يحتاج إلى صبر كثير وشديد. واليتيم يحتاج إلى صبر، وكذلك المسكين ذو المتربة، فإن هذه الأصناف تحتاج إلى صبر طويل.
والذين آمنوا يحتاجون إلى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي. فانظر كيف ارتبط الصبر بالسورة وكيف بنيت السورة عليه؟
وكذلك الرحمة فإن ذكرها مع الصبر أحسن ذكر وأجمله. فهي مرتبطة بقوله: (وأنت حل بهذا البلد) على كل معاني (الحل) فإذا كان حالاً يبلغ دعوة ربه فإنه أحرى أن يعامل بالرحمة لا بالأذى. وإذا كان المعنى أنه حلال للرسول هذا البلد وذلك في فتح مكة فقد عامل الرسول قريشاً بالرحمة والإحسان، وقال في ذلك اليوم: "اليوم يوم المرحمة". وقال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟ " قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
فانظر أي رحمة هذه؟
ومرتبطة بقوله: (ووالد وما ولد) فإن العلامة بين الوالد وولده، علاقة رحمة وبر.
وهذا الذي أهلك مالاً لبداً، يحتاج إلى الرحمة لينفق المال على ذوي الحاجة، ولئلا يهلكه فيما لا ينفع.
وذو الرقبة المسترقة محتاج إلى الرحمة والإشفاق.
واليوم ذو المسغبة ينبغي أن تشيع فيه الرحمة وهو من أحوج الأوقات إلى إشاعة الرحمة، واليتيم المسكين من أحوج الخلق إلى الرحمة.
والذي آمنوا ينبغي أن يتواصوا بينهم بالرحمة.
وهكذا بنيت السورة على الصبر والمرحمة.
ثم انظر كيف كرر التواصي مع كل منها فقال: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) ولم يقل: (وتواصوا بالصبر وبالمرحمة) ولا: (وتواصوا بالصبر والمرحمة) لأهمية التواصي بكل منهما وللدلالة على أن كلا منهما جدير بالتواصي به.
فأنت ترى أن هناك ثلاثة تعبيرات لكل تعبير دلالته:
(وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)
وتواصوا بالصبر وبالمرحمة.
وتواصوا بالصبر والمرحمة.
¥