والتعبير الأول أقوى التعبيرات للدلالة على أهمية كل منهما، وذلك لتكرار الفعل مع حرف الجر توكيداً على أهمية ذلك. ثم يأتي التعبير الثاني بالدرجة الثانية وهو تكرار حرف الجر مع المرحمة دون تكرار الفعل، ثم يأتي التعبير الثالث بالدرجة الثالثة، وهو العطف من دون ذكر للفعل ولا لحرف الجر. فيكون معنى التعبير الأول، وهو الذي عبرت به الآية أدل على أهمية كل من الصبر والمرحمة وآكد من التعبيرين الآخرين.
ثم انظر من ناحية أخرى كيف قدم التواصي بالصبر على التواصي بالمرحمة ذلك لأنه تقدم ما يحتاج إلى الصبر من المكابدة والمشقة، وانغمار الإنسان فيها، واقتحام العقبة وذكر النجدين. وأخر المرحمة لما جاء بعد ذلك من فك الرقاب وإطعام الأيتام والمساكين فقدم التواصي بالصبر لما تقدم ما يدعو إليه.
وقد تقول: ولم لم يقل كما قال في سورة (العصر): (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)؟ فقد ذكر التواصي بالحق ثم ذكر بعده التواصي بالصبر.
والجواب: أن المقام مختلف ففي سورة (العصر) كان الكلام على خسارة الإنسان على وجه العموم، فجاء بالتواصي بالحق على وجه الهموم ولما كان الكلام في سورة البلد على جزء من الحق وهو ما يتعلق بالرحمة والإطعام قال: (وتواصوا بالمرحمة).
وقدم الحق في سورة (العصر): لأنه الأهم ولأن الصبر إنما يكون صبراً على الحق. إذ ليس المهم هو الصبر، وإنما المهم أن يصبر على ماذا، ثم إن التمسك بالحق والتواصي به يحتاج إلى صبر أي صبر. فقدم الحق لذلك بخلاف سورة البلد، فإنه قدم الصبر على المرحمة لما ذكرنا.
(أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)
أي: أولئك الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، وفكوا الرقبة وأطعموا لمحتاج في اليوم ذي المسغبة أصحاب الميمنة. والميمنة: مفعلة من اليمن، وهو الخير والبركة أو من اليمن. وقد يكون معناها جهة اليمين التي تقابل الميسرة وهي الجهة التي فيها السعداء. وقد يكون معناها أصحاب اليمين أي: الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم. وقد يكون معناها: أصحاب اليمن والخير على أنفسهم وعلى غيرهم [78].
والذين كفروا هم أصحاب المشأمة، والمشأمة مفعلة من الشأم، وهي جهة الشمال، أو من الشؤم، وهو ضد اليمن [79].
ومعنى أصحاب المشأمة أصحاب جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم أو أصحاب الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم.
وقد تقول: ولم لم يقل أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال كما قال في مواطن أخرى من القرآن الكريم؟
والجواب أن اختيار هذين اللفظين له عدة فوائد:
منها: أن الميمنة والمشأمة جمعت عدة معان، وهي كلها مرادة مطلوبة في آن واحد، ولو قال: أصحاب اليمين أو أصحاب الشمال لأعطى معنى واحداً.
فأصحاب الميمنة هم أصحاب جهة اليمين التي فيها السعداء، وهم الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم، فيذهبون إلى الجنة، وهم أصحاب اليمن والخير والبركة على أنفسهم وعلى غيرهم في الدنيا والآخرة.
هذا إضافة إلى التناسب اللفظي، فالعمل والوصف والجزاء كله (مفعلة) فالذين يطعمون في يوم ذي (مسغبة) يتمياً ذا (مقربة) أو مسكيناً ذا (متربة) ويتواصون بـ (المرحمة) أصحاب (الميمنة) ومقابلهم من الكفار أصحاب (المشأمة).
فاقتضى المقام هذا الاختيار من كل جهة.
وقد تقول: ولم جاء في آية الكفار بضمير الفصل، فقال: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة) ولم يأت به مع المؤمنين.
والجواب: أن المذكورين من المؤمنين هم من أصحاب ميمنة غيرهم فإنه لم يذكر مثلاً: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو الذين آمنوا وتواصوا بالحق، أو الذين آمنوا وتواصوا بالجهاد، أو الذين آمنوا وتواصوا بالدعوة إلى الله، فكل هؤلاء من أصحاب الميمنة، بل ربما كان من أصحاب الميمنة من لم يتواص بصبر ولا مرحمة أصلاً من عامة المسلمين، وقد قال تعالى في سورة التين: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) ولم يذكر تواصياً بشيء.
أما الذين كفروا فهم أصحاب المشأمة حصراً، ولا يخرجهم منهم وصف آخر أو عمل آخر إذا بقوا على كفرهم.
جاء في (روح المعاني): إنه "جيء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر" [80].
فكان ذكر ضمير الفصل في آية الكفار، وعدم ذكره في آية المؤمنين هو المناسب.
(عليهم نار مؤصدة)
¥