تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولما كانت قوة اللغة تستمدها من قوة أهلها، لأن اللغة تقوى وتزدهر وتنتشر، بقدر ما تتقوّى الأمة التي تنتسب إليها وتترقى في مدارج التقدم الثقافي والأدبي والعلمي والازدهار الاجتماعي والسياسي والحضاري، فإن الوضع الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية في هذه المرحلة من التاريخ، لا يوفر للغة العربية حظوظاً أكبر للبروز وامتلاك شروط القوة، مما يترتب عليه ضعف اللغة وعدم قدرتها على فرض الوجود والتحكم في توجّهات الإعلام، والخروج من دائرة سيطرة نفوذه، والفكاك من هيمنة وسائله، بحيث تصير اللغة تابعة للإعلام، متجاوزةً بذلك الفواصل بين الإصلاح والإفساد.

لقد كان الغيورون على لغة الضاد عند ظهور الصحافة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر، يحذرون من انحدار اللغة إلى مستويات متدنية، فتعالت صيحات الكتاب والأدباء في غير ما قطر عربي، داعية إلى الحرص على صحة اللغة وسلامتها، وظهرت عدة كتب تعنى بما اصطلح عليه بلغة الجرائد؛ تصحح الخطأ، وتقوّم المعوج من أساليب الكتابة، وتردّ الاعتبار إلى اللغة العربية. وقد أفلحت الجهود التي بذلها أساطين اللغة والرواد الأُول الحريصون على سلامة اللغة السائدة في الصحافة، أو (اللغة السيَّارة)، قياساً على قولنا (الصحف السيَّارة).

ولكن مع الانتشار الواسع للصحافة الذي تَزَامَنَ مع الازدياد في عدد المتعلمين من خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس، وما استصحب ذلك كلّه من هبوط في المستوى الدراسي بصورة عامة، نتيجة لأسباب وعوامل كثيرة، اقتصادية وسياسية وثقافية، انتهى الأمر إلى ضعف اللغة العربية وهيمنة اللهجات العامية المحلية عليها، وسريان ذلك إلى وسائل الإعلام، على نحو يكاد يكون مطرداً، بعد أن لم تعد تجدي صيحات التحذير التي يطلقها علماء اللغة والغيورون عليها، ولم تعد تنفع القرارات والتوصيات التي تصدر عن المجامع اللغوية، أو تلك التي تصدر عن الندوات والمؤتمرات المختصة.

وقد ترتَّب على هذا الوضع الذي وصلت إليه اللغة العربية، أن دخلت عصر الإعلام الواسع الانتشار، وهي تعاني من ضعف المناعة، مما أدَّى إلى هجوم مكتسح وغزو جارف لما يطلق عليه (لغة الإعلام)، على اللغة الفصحى، فوقع تداخل بين اللغتين الفصيحة والعامية، تولَّدت عنه لغة ثالثة هجينة ما لبثت أن انتشرت على نطاق واسع داخل الأقطار العربية وخارجها حيث يوجد من يعرف اللغة العربية من الجاليات العربية وممن تعلَّم العربية وهي ليست لغته الأم.

واللغة الثالثة هذه، والتي صارت لغة الإعلام المعتمدة، هي منزلة بين المنزلتين، كما كان يقول أهل العدل والتوحيد في تاريخنا؛ فلا هي اللغة الفصيحة في قواعدها ومقاييسها وأبنيتها وأصولها، ولا هي لغة عامية لا تلتزم قيوداً ولا تخضع لقياس ولا تسري عليها أحكام. ولكن ميزة هذه اللغة أنها واسعة الانتشار انتقل بها الحرف العربي إلى آفاق بعيدة، ولكن الخطورة هنا، تكمن في أنها تحل محل الفصحى، وتنتشر بما هي عليه من ضعف وفساد باعتبارها اللغة العربية التي ترقى فوق الشك والريبة. وبذلك تكتسب هذه اللغة الجديدة (مشروعية الاعتماد)، ويخلو لها المجال، فتصير هي لغة الفكر والأدب والفن والإعلام والإدارة والديبلوماسية، أي لغة الحياة التي لا تزاحمها لغة أخرى من جنسها أو من غير جنسها.

وبحكم التوسّع في وسائل الإعلام وتعدّد قنواته ومنابره ووسائطه، ونظراً إلى التأثير العميق والبالغ الذي يمارسه الإعلام في اللغة، وفي الحياة والمجتمع بصورة عامة، فإن العلاقة بين اللغة العربية والإعلام أضحت تشكل ظاهرة لغوية جديرة بالتأمل، وهي ذات مظهرين اثنين:

ـ أولهما أن اللغة العربية انتشرت وتوسَّع نطاق امتدادها وإشعاعها إلى أبعد المدى، بحيث يمكن القول إن العربية لم تعرف هذا الانتشار والذيوع في أي مرحلة من التاريخ. وهذا مظهر إيجابي، باعتبار أن مكانة اللغة العربية قد تعززت كما لم يسبق من قبل، وأن الإقبال عليها زاد بدرجات فائقة، وأنها أصبحت لغة عالمية بالمعنى الواسع للكلمة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير