تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ ثانيهما ويتمثَّل في شيوع الخطأ في اللغة، وفشوّ اللحن على ألسنة الناطقين بها، والتداول الواسع للأقيسة والتراكيب والصيغ والأساليب التي لا تمتّ بصلة إلى الفصحى، والتي تفرض نفسها على الحياة الثقافية والأدبية والإعلامية، فيقتدى بها ويُنسج على منوالها، على حساب الفصحى التي تتوارى وتنعزل إلاَّ في حالات استثنائية. وبذلك تصبح اللغة الهجينة هي القاعدة، واللغة الفصيحة هي الاستثناء. وهذا مظهر سلبي للظاهرة.

وإذا قمنا بالتكييف اللغوي ـ على غرار التكييف القانوني ـ لهذه الظاهرة، لا نعدو الحق إذا قلنا إن اللغة العربية تعاني في هذه المرحلة من (التلوث) الذي يُلحق أفدح الأضرار بالبيئة اللغوية، ويفسد الفكر، ويشيع ضروباً من الاضطراب والإرباك والقلق في العقول، علاوة على ما يسبّبه هذا الوضع اللغوي غير المستقر، من فساد في الحياة العقلية للأمة، تنتقل عدواه إلى فساد في معظم المجالات، فتختلط المعاني والدلالات والمفاهيم والرموز في لغة الحوار بين الطبقات المثقفة، وبين قيادات المجتمع، فيؤدي ذلك إلى الغموض والالتباس والتداخل في مدلولات الكلمات، مما ينشأ عنه حالة من (الفوضى اللغوية) التي إن عمّت وانتشرت، أفضت إلى فوضى عارمة في الحياة الفكرية والثقافية، وإلى ما هو أعظم خطراً من ذلك كله.

إن هذا التشخيص للعلاقة بين اللغة والإعلام يمكننا من أن نقف على حقيقة الوضع اللغوي للضاد (2)، في هذه المرحلة الحافلة بالمتغيرات الإقليمية والدولية الحاسمة. وليس من المبالغة في شيء، في ضوء ذلك، قولنا إن هذا الوضع خطير بالمقاييس جميعاً، وبالمعاني كلها، ومن عدة وجوه، ولكن هذه الخطورة لا تمنع من معالجة الخلل وتطهير البيئة اللغوية من التلوث، وإفساح المجال أمام تنمية لغوية يُعاد فيها الاعتبار إلى الفصحى، وتستقيم فيها حال اللغة، بحيث تقوم العلاقة بينها وبين الإعلام على أساس سليم، فيتبادلان التأثير في اعتدال وفي حدود معقولة، فلا يطغى طرف على آخر، بحيث تبقى اللغة محتفظة بشخصيتها، ويظل الإعلام يؤدي وظيفته في التنوير والتثقيف والترفيه النظيف، فيتكامل الطرفان وينسجمان، فتصبح اللغة في خدمة الإعلام، ويصبح الإعلام داعماً لمركز اللغة.

ولكننا لا نيأس من إصلاح اللغة العربية في المدى القريب، فلقد تحقق اليوم ما يعبر عنه (بالتضخم اللغوي)، أو (التوسّع اللغوي) (3)، وذلك نتيجة لاتساع رقعة الإعلام وتأثيره في المجتمعات، ولانتشار اللغة العربية بوضعها الحالي، على نطاق واسع، وهو الأمر الذي يخدم أحد أغراض التنمية اللغوية بالمعنى الشامل للتنمية المعتمد في الخطاب المعاصر. وليس في التضخم اللغوي خطر على اللغة، كما هو الشأن في الاقتصاد، لأن التضخم هنا توسيع لنطاق استخدام اللغة، وإغناء لمضامينها ومعانيها، وتلك غاية سامية من الغايات التي تهدف إليها التنمية اللغوية.

وكما أن للتنمية من حيث هي، سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية، قواعد وضوابط ومعايير وأهداف مرسومة، فكذلك هي التنمية اللغوية التي لن يتحقق الغرض منها ما لم تتوافر لها الشروط الموضوعية.

ويأتي في مقدمة هذه الشروط التي إن انتفى شرط واحد منها، فقدت التنمية اللغوية الهدف المتوخى منها، ثلاثة شروط، هي:

أولاً: أن تلتزم اللغة القواعد والأبنية والتراكيب والمقاييس المعتمدة والتي بها تكتسب الصحة والسلامة، في غير ما تزمت، أو تقعر، أو انغلاق، مع مراعاة المرونة والتكيّف مع المستجدات التعبيرية، فلا تسف، ولكنها تحافظ على طبيعتها وأصالتها ونضارتها.

ثانياً: أن تفي اللغة بحاجات المجتمع، وأن ترتقي إلى المستويات الرفيعة لشتى ألوان التعبير، بحيث تكون لغة متطورة، مسايرة لعصرها، مندمجة في محيطها، معبرة عن ثقافة المجتمع ونهضته وتطوره، مواكبة لأحواله، مترجمة لأشواقه وآماله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير