أما الرأي الآخر، فيثبت الترادف، ويرى أن هناك كلمات مترادفة، تؤدي معنىً واحداً تاماً، لم تأت في العربية عبثاً، وإنما جاءت لأغراض ومقاصد، ويستدلون على صواب رأيهم بأدلة عقلية وخرجوا الآية الكريمة مخارج تدعم أو تسالم رأيهم، وحديثهم في إثبات الترادف قائم من منطلق أن اللغة اصطلاحية.
ولعل من أبرز القائلين به الآمدي صاحب الإحكام في أصول الأحكام إذ نص على ذلك، واتهم أصحاب الرأي السابق وسرد أدلة عقلية على وقوعه ((ذهب شذوذ من الناس إلى امتناع وقوع الترادف في اللغة، وجوابه أن يقال: لا سبيل إلى إنكار الجواز العقلي، فإنه لا يمتنع أن يقع أحد اللفظين على مسمى واحد ثم يتفق الكل عليه، وأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين على مسمىً، وتضع الأخرى له اسماً آخر، من غير شعور كل قبيلة بوضع الأخرى ثم يشيع الوضعان بعد ذلك. ثم يُدلل الآمدي على إمكانية وقوع ذلك بقوله: ((ثم الدليل على وقوع الترادف في اللغة ما نقل عن العرب من قولهم: الصهلب، والشوذب من أسماء الطويل، والبهتر، والبحتر من أسماء القصير))
والسيوطي ممن يثبتون وجود الترادف في اللغة، ويعلل ذلك، ذاكراً فوائد الترادف: وأبرز علله ما يأتي:
أولاً: أن تكثر الوسائل، والطرق، إلى الإخبار عما في النفس، فربما نسى أحد اللفظين، أو عام عليه النطق به، وقد كان بعض الأذكياء ـ ويقصد به واصل ابن عطاء ألثغ، فلم يحفظ عنه أنه نطق بحرف الراء، ولولا المترادفات تعينه على قصده لما قدر على ذلك.
ثانياً: التوسع في سلوك طرق الفصاحة، لأن اللفظ الواحد قد يتأتى باستعماله مع لفظ آخر السجع، والقافية والتجنيس.
ثالثاً: ذهب بعض الناس إلى أن الترادف على خلاف الأصل، والأصل هو التباين، وبه كما يقول الإمام السيوطي ـ جزم البيضاوي في منهاجه.
رابعاً: قد يكون أحد المترادفين أجلى في تعبيره من الآخر، وقد ينعكس الحال بالنسبة لقوم آخرين.
خامساً: أورد السيوطي تقسيماً لعالم اسمه " ألكيا " وهو اسم غريب وتقسيم كما يقول السيوطي غريب؛ يقول: تنقسم الألفاظ إلى متوارد كما تسمى الخمر عقارا، وصهباء، وقهوة، والمترادفة مثل صلح الفاسد، ولم الشعث.
سادساً: أثبت السيوطي المترادف بنماج لمن استقصوا أو حاولوا استقصاء أسماء العسل، والسيف، وكأنه بذكره لهذه الأسماء، يرى أن القائلين بإنكار الترادف يتمحلون في وضع العلل."
ثانياً: التطبيق:
حينما ننظر لكلمات مثل (الهم، والغم، والحزن)،
نجد أن جذر المعنى الذي تجتمع عليه الكلمات الثلاث هو ما يعتري النفس من كدر، وعدم رضى، مع تفاوت وتمايز في دلالة كل كلمة منها.
وأبدأ بكلمة الحزن التي تتخذ في معاجم اللغة دلالات، ويفسره صاحب المعجم الوسيط بمرادفه وهو اُغتم،
وابن فارس في مقياسه اللغوي تجاوز تعريفه للحزن وقال هو معروف؛ يُقال أحزنني الشيء يحزنني، وحزانتك أهلك ومن تحزن عليهم،
ووجدت الشريف الجرجاني يعرف الحزن، ويربطه بالماضي: عبارة عما يحصل لوقوع مكروه، أو فوات محبوب في الماضي .. .
والواقع أننا حينما نبحث عن مترادفات الحزن نجدها متعددة، وكلمات عدة تؤدي المعنى الذي ذكرته آنفاً ...
فعند علماء اللغة تقول: ((غمني، أحزنني وشجاني، وشجنني، وأشجنني، وعزّ عليّ، وشق عليّ، وعظم عليّ، واشتد عليّ))
ويُقال: ((ورد فلان خبر، فحزن له واغتم، وأسى، وشجى، وشجن، وترح، ووجد ونكد، وكئب، واكتأب، واستاء، وابتأس، وجزع وأسف، لهف، والتهف، والتاع، والتعج، وارتمض ... )).
وهي كلمات كما ترى تحمل كل واحدة منها دلالة، لا يمكن في تصوري أن تلتقي كلمتين منها التقاءً تاماً فلكل واحدة منها ظلالاً معينة وبما أننا قد اخترنا، الثلاث كلمات السابقة، فلنتابع الحديث عنها.
فالغم كما يقول ابن فارس ((الغين والميم أصل واحد صحيح يدل على تغطية، وإطباق، ويُقال: غمه الأمر يغمه غماً. وهو شيء يغشى القلب .. ))
¥