وإذا تأملنا هذا المنهج بعمق، ووقفنا عنده طويلا، لوجدناه يتضمن عمليتين ذهنيتين، إحداهما يقينية، وهي النقض أو الهدم.
وثانيهما محتملة، وهي البناء أو اليقين. فالمفكر الفرنسي يفرغ ذهنه تماما من أي فكرة معارضة أو مؤيدة لموضوع بحثه، ثم يبدأ في محاولة البناء من جديد، وهي عملية أشبه ما تكون بالولادة العسرة. فالهدم أسهل ما يكون بضربة معول، بينما البناء يتطلب أدوات وخبرات عديدة ووقتا طويلا وعملا شاقا حتى يرتفع البناء مرة أخرى.
ثم إن هناك مدى محدودا يمكن أن يتحرك فيه هذا المبدأ الشكاك. أما إذا اقتربنا من المقدسات الدينية، والنصوص الثابتة من الكتاب أو السنة. فأي منطق يجيز لمفكر أو باحث مهما علا كعبه في ميدانه أن يستخدم مبدأ الشك الديكارتي كما يستخدم الجراح المشرط في تشريح النصوص وتمزيقها وتفريق وحدتها وهدم مضموناتها؟ إن دون ذلك خرط القتاد!.
لقد بلغ هَوَس الدكتور بتطبيق مبدأ الشك أن جرّبه في كل شيء ..
- في إنكار الشخصيات التاريخية، حتى وإن أثبتها القرآن والتوراة والإنجيل. كما فعل في إنكار الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
- في النسب الصحيح للشاعر المتنبي حين ادعى أنه لقيط!
- في الحقائق الثابتة .. حين أنكر عروبة مصر وساق الأباطيل التي يرددها المستشرقون لتأييد هذا الإنكار.
- في وجوب تعظيم النسب الشريف، حين قال: "فلأمر ما، اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفو الإنسانية كلها" [20]!
- في إنكار الشعر الجاهلي جملة وتفصيلا وهو ديوان العرب، ومصدر ثقافتهم وموضع فخرهم وسجل انتصاراتهم، وتاريخهم المنبئ بأحوالهم في سلمهم وحربيهم، في حلهم وترحالهم، في غدوهم ورواحهم.
وفي معرض الرد على مذهب الشك الذي انتهجه طه حسين يقول الأستاذ الغمراوي: "إن الغرب نجا من أن يحاول هدم تاريخه أو تاريخ لغاته هادم عن طريق الشك غير العلمي: لسيادة الرأي العلمي فيه .. واستحواذ الروح العلمي على أهله .. أما الشرق، فليس له مثل هذين السياجين يردّان عنه عادية هذا الباطل الذي يهاجمه باسم الحق، ولا هذا الشك الذي يريد أن يداخله باسم العلم، ولا هذا الهدم والتعطيل اللذين يكرّ عليه بهما نفر من أهله باسم التجديد! ومهما يكن من موقف المؤرخين في الشرق أو في الغرب حيال مبدأ الشك المطلق فإن العلماء لا يأخذون به، وإن العلم لا يقرّه ولا يمكن أن يقره .. " [21].
إن منهج الشك الذي اتخذ منه صاحبنا الشكاك هذا معولا يهدم به التراث العربي والإسلامي، وسلاحا يحاول به تمزيق عقائد الأمة وأخلاقها لا يصلح أن يكون طريقا علميا منهجيا يسلكه الباحثون عامة والباحثون المسلمون خاصة ..
وبحسب المرء منا أن يسأل نفسه:
هل يمكنه أن يشك لحظة واحدة فيما جاء في كتاب الله سبحانه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وهل يمكن أن يوصله الشك في الحقائق الثابتة الوطيدة إلا إلى هوة الضياع الأبدي؟
وهل استطاع أن يتوصل من شكه هذا إلى الإيمان، سيما والكل يعلم أن طه حسين ظل يتاجر بتصريحاته الدينية وكتبه التي يزعمها إسلامية إلى آخر حياته؟
إن الدعوة الإسلامية في غنى عن هذا كله.
إن قضية الإيمان لا يهزها ولا يؤثِّر فيها مُدَّعُو الإيمان، والمتاجرون بعقائد المسلمين، ولكن الأمور يجب أن توضع في نصابها الصحيح، فلينهض أُسُودُ الدعوة لينفوا أمثال هذا المأجور الراحل من صفوفهم كما ينفي الكير خبث الحديد!
يقول الأستاذ العدوي: "كيف يقدس الحق من يجد في الشك لذة؟ أم كيف يطمئن للحقائق من يجد في القلق والاضطراب رضا؟ إذا كان الشك يلذ للدكتور وأمثاله من المجددين، والاضطراب تستريح إليه نفسه، فكيف يستنتج مجهولا من معلوم، وينتقل من مقدمات إلى نتائج، ومن مبادئ إلى غايات؟ وهل إذا وضحت أمام الدكتور المقدمات وتجلت الحقائق، يأمن أن تساوره شهوة الشك، أو تملك عليه أمره لذة القلق والاضطراب؟ " [22].
ملاحظات حول منهج البحث الذي ارتضاه المؤلف
¥