تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكن سرعان ما انقلبت الثورة على نفسها، وتآمر جمال عبدالناصر وزمرته على محمد نجيب وألقوا القبض عليه في مشهد مهين، وساقوه إلى الإقامة الجبرية بتهمة أنه يستمع إلى الإخوان المسلمين ويفتح لهم بابه، وأعلن جمال نفسه زعيماً ورئيساً لمصر حفاظاً على ما يسمى بمكتسبات الثورة وحماية لها من أعدائها الإسلاميين المتربصين بها! وفتح المعتقلات للإخوان سنة 1954م ودبر تمثيلية "المنشية" الشهيرة ليقدم مبررات لحملته على الإخوان أمام الرأي العام المصري والعالمي، ودخلت البلاد في دوامة حكم شمولي بوليسي لم يأمن فيه الناس على أنفسهم، وقد رأوا السجن الحربي يفتح لهم فاه ويقول هل من مزيد.

وأمام هذا الظلم والجبروت والادعاءات الكاذبة المزيفة وإلغاء الأحزاب والحياة النيابية وإقصاء نجيب، ثارت ثائرة هاشم الرفاعي من جديد ولم يتمالك نفسه وأعلن منذ أول يوم رفضه لعبد الناصر وزبانيته:

أنزلْ بهذا الشعب كل هوانِ ... وأعدْ عهود الرق للأذهانِ

أطلقْ زبانية الجحيم عليه مِنْ ... بوليسكَ الحربيِّ والأعوانِ

وفي القصيدة نفسها يتحدث عن محكمة "الشعب" الهزلية التي أقامها عبدالناصر للإخوان ونصّب لها قضاة مزيفين من زمرته الفاسدة لتحكم بأحكام معدة سلفاً، فكانت محط سخرية المصريين جميعاً:

ما بين محكمة تقام وأختها ... مُنِيَ الضمير بغفوة النعسانِ

الشعب يلعنها وتُقرَن باسمه ... أرأيت كيف تبجُّحِ البهتانِ

فيها القضاة هم الخصوم وإنها ... لعدالةٌ مختلةُ الميزانِ!

ويعلن هاشم الرفاعي أنه لن ينخدع بكل هذا البهتان الذي زيفه جمال:

هبني خُدِعت بكل ما زيفته ... عن سادة الأحزاب والإخوانِ

هل خان قائدنا نجيبٌ عهدنا ... أم راح نهبَ الحقدِ والأضغانِ؟!

وهو سؤال دخل به شاعرنا منطقة محظورة وحقل ألغام خطير، ولكنه لم يأبه لذلك، وراحت قصائده في عبدالناصر وأزلامه تترى، وشارك في المظاهرات ضد رجال الثورة الذين ضربوا الاتجاه الإسلامي وأقصوا نجيب، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يُفصَل فيها من معهد الزقازيق لمدة سنتين (من 1954 - 1956م) وكان فصله في هذه المرة بسبب قيادته للمظاهرات التي خرجت من معهد الزقازيق ضد عبد الناصر.

في تلك الفترة كتب الشاعر عدة قصائد في الهجوم على عبدالناصر، منها قصيدة "مصر بين احتلالين" والدلالة هنا واضحة حيث يقصد بالاحتلال الأول الاستعمار الإنجليزي، وبالثاني عهد عبدالناصر، وفيها يقول:

ما عدتِ يا أرض الكنانة موطناً ... للحر بل قد صرت ِ دار نكالِ

قد حورب الأحرار في أرزاقهم ... من ظالم في الظلم ليس يبالي

عدْ يا جمال بما تشاء مظفّراً ... إن الطغاة قصيرة الآجالِ

لم يعرف "الباستيلُ" يوماً بعض ما ... في سجنك "الحربي" من أهوالِ

من كان يخشاه فمصرٌ قد غدت ... سجناً كبيراً محكم الأقفالِ

وبرغم التحذيرات الكثيرة من أصدقاء الشاعر المخلصين ونصحهم إياه بالكف عن التعرض لعبدالناصر خوفاً عليه من بطشه، إلا أن هاشم الرفاعي أعلن تمسكه بقول الحق مهما كلفه، وسجل ذلك في قصيدة "جمال .. رئيس الجمهورية!! ":

لا مصر داري ولا هذي الرُّبا بلدي ... إني من الحق فيها قد نفضت يدي

وقائلٍ ليَ - ينهاني وينصحني: ... السجن بات قريباً منك فابتعدِ

إن كنتَ ذا شَمم في معشر جنحوا ... للذل فاجنح له تركنْ إلى رَشَدِ

فقلت: فكريَ .. إحساسي أأقتله؟! ... هذا الذي لم يَدُرْ يا قوم في خَلَدي

في دار العلوم وفي سنة 1956م ينتقل هاشم الرفاعي إلى القاهرة ويبدأ مرحلة جديدة من حياته في كلية دار العلوم، مرحلة اتسع فيها أفقه، وصقلت فيها تجربته الإسلامية، وارتبط أكثر بقضايا المسلمين في ربوع الوطن الإسلامي الكبير (فلسطين -السودان - الجزائر - الصومال) وذاع صيته وانتشرت قصائده من خلال الندوات والاحتفالات التي كان يشارك فيها بقصائده، وبخاصة تلك التي كانت تعقد في جمعية الشبان المسلمين، وفيها ألقى روائع قصائده الإسلامية مثل قصيدة "شباب الإسلام":

ملكنا هذه الدنيا قرونا ... وأخضعها جدود خالدونا

وسطّرنا صحائف من ضياء ... فما نسي الزمان ولا نسينا

وآلمني وآلم كل حر ... سؤال الدهر: أين المسلمونا

تُرى هل يرجع الماضي فإني ... أذوب لذلك الماضي حنينا

وأمام كل هذا التألق والإبداع والذيوع والانتشار لشاعر إسلامي واعد لم يكمل دراسته الجامعية بعد، فكيف إذا طال به العمر وازداد ذيوعاً وانتشاراً لا شك أنه عندها سيشكل تهديداً حقيقياً لمصالح الطغاة، ومن ثم سارعت أصابع الغدر والطغيان التي عصفت بمحمد نجيب والإخوان المسلمين وكل المصريين المخلصين، سارعت إلى إنهاء هذا الكابوس الجاثم على صدرها، وفي الثاني من يوليو 1959م تم استدراج هاشم الرفاعي إلى خصومة مصطنعة مع أعدائه الشيوعيين في بلدته أنشاص، وفي الخفاء تقدمت نحوه يد الغدر بطعنة جبانة من سكين حمقاء، ليصعد بعدها شهيداً ينضم إلى قافلة الشهداء الذين سقطوا على يد عبد الناصر، تصعد روحه إلى بارئها تشكو ما يلاقيه العباد من ظلم العباد.

ويشكل مقتله المفاجئ صدمة لأبناء الاتجاه الإسلامي في مصر والعالم، وبخاصة في كلية دار العلوم التي برز هاشم الرفاعي بين أبنائها وكان يتولى مسؤولية النشاط الأدبي في هذه الكلية التي كان عميدها الأستاذ الشاعر علي الجندي، والذي كان معجباً بهاشم الرفاعي ويتنبأ له بمستقبل عظيم، ولهذا لم يتمالك مشاعره تجاه هذا الغدر الأليم فقال يرثيه:

لهف نفسي على الصبا المنضورِ ... لفَّه الغدر في ظلام القبورِ

فجَعَتْنا عصابة الكفر والإلحاد ... والبغي والخنا والفجورِ

قتلوه بغياً ليخفوا سناه ... كيف يُخفى سنا الصباح المنيرِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير